• الشهيد عبد العال: فلسطين أمانة في أعناق الأجيال الجديدة
    2025-01-14

    قرأتُ رواية "مسلّة أديم" منذ شهورٍ قليلة، وتناقشت مع الروائي الشهيد نضال عبد العال بشأن سرديّتها وواقعيّة التفاصيل فيها، وجذبني التسلسل العائلي الذي تناولهُ الروائي الشهيد بين تفاصيل المخيم البسيطة، حيث يعيش جزء من العائلة في مخيم نهر البارد، شمالي لبنان، وحكايات الجد عن اللجوء الأول من المكان الأول إلى الأمكنة المتعددة، وحيث السويد مكان لجوء الأخ الأكبر محمود، الذي يعيش الغربة في النفس والهوية، وبحثه الدائم عن أجزاء العائلة في تركيا. هذا التشتت يربطهُ الروائي الشهيد نضال عبد العال في نصّ الرواية الذي يجمع الفصول كلّها، والأجزاء كلّها، تحت مظلّة الهوية، أتذكر أنّني سألتهُ عن زيارة محمود لتركيا، للبحث عن حسين، العم الضائع هناك في تيه الغربة والمنفى، فقال إن محمود لم يزر تركيا للبحث عن حسين، حين أخبر سامر ابن محمود، وهو يعمل في مطار ستوكهولم بالأوراق القانونية للمسافرين، فوجد فتاة من عائلته، لكنّها تركية، وتحمل اسم العائلة نفسه، واسم الوالد عم والده، أخبر والدهُ بالأمر، فقال والدهُ محمود: وجدناهُ إذاً، هو في تركيا. قال لي الروائي الشهيد نضال عبد العال، إنّهُ أدخل هذه التفاصيل للرواية من مخيّلتهِ كي يجمع شمل العائلة، وكدتُ قبل أن يخبرني الحقيقة أن أتصل بمحمود في السويد، وأسألهُ عن السفر إلى تركيا، والبحث عن أجزاء العائلة هناك، لولا أن الروائي أخبرني بأنّها تفاصيل البحث من مخيلتهِ وإحدى وسائل صراع الهوية.

    هنا يكمن الإبداع في الرواية التي وضعتنا في سياق التساؤل عن التفاصيل التي صدقتها كقارئ، لأنني أعيشها في الواقع الفلسطيني المشرّد، أعيش هذا القلق الوجودي في حضرة الهوية، والهوية في رواية "مسلّة أديم" تتراوح بين الأزمنة والأمكنة، وبين الوطن والمخيم، وبين أفراد العائلة التي تبحث عن صياغة الذاكرة كي تعيد ترتيب الأثر المقدّس الذي يواجه حرب الإبادة الصهيونية في ظل النفي والتهجير منذ عام 1948 إلى اليوم. وأتساءل في داخلي: هل رواية " مسلّة أديم" تشبه رحلة سيزيف الأخيرة؟ في المعنى الخفي لرحلة الفلسطيني من نفسهِ إلى جرحهِ حتى هويته، ولو فسّرنا عنوان الرواية "مسلّة أديم" فهي لوح كنعاني، وربّما قصدهُ الروائي الشهيد بالإشارة إلى الحجر الكنعانيّ الأول في فلسطين، "الأثر المقدّس" حيث عاش الكنعانيون الأجداد، أي الجذور الأولى لهم المتكئة على حجر الأرض الأول. ولا ننسى أن الروائي الشهيد هو من قرية الغابسية التي تقع شمال شرق مدينة عكّا، ومن هناك مسقط رأس العائلة، التي كانت البيوت القديمة لها تحيطُ بمسجد الغابسيّة الحجري، الذي ما زال إلى يومٍ هذا يقفُ شامخاً في حجارتهِ الصخرية، كأنّهُ هو اللوح الكنعاني الأول الذي قصدهُ أديبنا الشهيد، ولم يستطع العدوّ الصهيوني إزالتهُ من الوجود، فالحجر الأوّل شاهدٌ على أثر العائلة الأول في المكان، مهما طال زمن اللجوء في البلاد والمخيمات. يقولُ في الصفحة الـ99 من الرواية:

    "في العادة لا تشعرُ أنّكَ في العلاقة مع محطّة الانتظار. إنّها علاقة عابرة وظيفية تنتهي بانتهاء حاجتك إليها. متى يُصبح للمرء معنىً آخر؟ عندما تبتعد عن مكانٍ ما، وتشعرُ بالحاجة للعودة إليه سوف يولدُ لهُ معنىً جديد استثنائي في نفسك." 

    ربّما محطّة الانتظار هو المخيم " فلسطين الموقتة" وعلاقتنا بالخيمة علاقة عابرة تنتهي مع انتهاء حاجتنا إليها، ولها معنى وظيفيّ موقت. ويسأل أديبنا الشهيد: متى يصبح للمرء معنىً آخر؟ كأنّهُ يقول: حين ينتصر ويعود إلى مسلّة أديمه الأولى، أي إلى أثر المكان الأول، كأنّهُ يعود إلى هويّته الأولى، ولم يدرك مدى أهميّة هذا المكان إلا حين يبتعد عنهُ، ولا يشعر بالشغف والاهتمام نفسيهما حين يكون المرء في مكانه الأول، ولم يجرب النكبة واللجوء، كأنّهُ يقصد أيضاً: "النكبة تمنحك جمرة المقاومة" وحرارتها من أجل العودة، المقاومة الاستثنائية في نفسك.

    ويتابع في الصفحة رقم 101 من الرواية، يقول: "رفضَ جدّي محمود مقايضة اللوح الطيني بالنقود الذهبية، وقال لجدّك الخواجا اسماعيل: "هذه أمانة أوصلها إلى صاحبها". وعدّ أبي أنّ عمهُ علي العبدالله كلّفهُ بمهمة نبيلة لمعرفة قصة اللوح واختفائه، وشدّد عليَّ أبي قبل موتهِ بلحظات أن أتابع المهمّة". 

    هنا نتلمّس معهُ قوّة التمسك بالمهمة النبيلة، التي هي التشبث بأثر الأجداد الأوّل الذي تكلّم عليه الروائي الشهيد هو اللوح الطيني، "الأمانة" الكبيرة، الوصية الباقية. والتكليف هنا هو رسالة الجيل الأول للنكبة إلى الأجيال المقبلة التي تبحث عن أثرها الأول. مات الأب الذي عاش النكبة، وما قبلها، وهو يحمل اللوح الطيني "الأمانة" الذي أحضرهُ من فلسطين إلى الشتات، وأوصى ابنهُ بأن يكمل عنهُ المهمة النبيلة في البحث، وأوصاهُ بها بعد موته، فتابع ابنهُ الروائي الشهيد المهمة النبيلة حتى استشهد من أجلها، لأنّها الأمانة الكبيرة الغالية التي لا تقايَض بالنقود الذهبية والكنوز. إنّها فلسطين، وإنّها الغابسية وترابها وأحجارها الكنعانية، إنّهُ مسجدها الحجري الشهيد والشاهد على أمانة الروح التي تحيا في ألواح الأحجار المنحوتة من أصابع أجدادنا، وتصرخ معهُ، مثلما جاء في خاتمة الرواية: "نادى بأعلى صوته: ممدوح أما زلت تنتظر"؟

    - صدرت رواية "مسلّة أديم" عن دار الفارابي بالتعاون مع أكاديمية دار الثقافة، في كانون الثاني/يناير 2024 - من 123 صفحة من القطع المتوسط.

    استُشهد الروائي القائد نضال عبد العال بتاريخ الـ29 من أيلول/سبتمبر 2024 في اغتيال جبان من العدو الصهيوني في بيروت، ضمن معركة طوفان الأقصى - لبنان.

    نبذة عن الروائي:

    صدرت لهُ ثلاثة روايات، منها: رواية "سردٌ آخر"، صدرت عن دار الولاء للتوزيع والنشر، بيروت؛ رواية "ازدحام"، صدرت عن مركز إنسان، مصر، وفازت بجائزة النشر بالمرتبة الأولى.


    http://www.alhourriah.ps/article/96981