• «الأنظمة العربية وسياسات الفصائل الفلسطينية»
    2025-01-11
    أسامة خليفة/ كاتب فلسطيني

    يطرح المفكر نايف حواتمة « رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» في كتابه «الأزمـات العـربيـة فـي عيـن الـعـاصـفـة»: ثلاث وجهات نظر بالنسبة إلى العلاقات العربية الفلسطينية، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، والنهوض الكبير للمقاومة رداً على هزيمة الأنظمة العربية في حزيران/ يونيو 1967، وجهة النظر الأولى تحت شعار «عدم التدخل بالشؤون العربية الداخلية»، وجهة النظر الثانية تقول بالاحتواء تحت شعارات «قومية» و«الحاضنة العربية»، وجهة النظر الثالثة تتحدث عن معادلة الترابط الجدلي بين العام العربي والخاص الفلسطيني، يقول: «أطلقت حركة فتح شعار عدم التدخل بالشؤون العربية الداخلية، مع أنها تدخلت وتتدخل، وقد تعرضت ذاتها والحالة الفلسطينية إلى تدخل فظ من قبل الحكومات والدول بالشؤون التفصيلية للوضع الفلسطيني».

    شعار «عدم التدخل بالشؤون العربية الداخلية» جاء أيضاً متضمناً في المادة (27) من الميثاق الوطني الفلسطيني: «تتعاون منظمة التحرير الفلسطينية مع جميع الدول العربية كل حسب امكانياتها، وتلتزم بالحياد فيما بينها في ضوء مستلزمات معركة التحرير وعلى أساس ذلك، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة عربية».

    كانت الخيارات أمام الفلسطينيين محدودة دفعتهم الظروف المأساوية للانخراط في النزاعات الداخلية للدول العربية حيث وجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم في وسطها، فقد نشأ عن التموضع الفلسطيني في لبنان، حالة لها خصوصيتها من ناحية التحالف المتين الذي تعمد بالدم مع الحركة الوطنية اللبنانية، شكل هذا التحالف حماية حقيقية للعمل الفدائي في مواجهة التآمر الثلاثي «الأمريكي- الإسرائيلي – اللبناني الانعزالي»، مع ذلك أطلق البعض على التدخل الفلسطيني ما يسمى «جمهورية الفاكهاني».

    قبل ذلك، وفي مرحلة تواجد المقاومة الفلسطينية في الأردن، أطلقت تنظيمات شعارات متطرفة، مثل: « كل السلطة للمقاومة» وشعار «طريق التحرير يمر من عمان»، وفرضت المقاومة نفسها بديلاً عن الحركة الوطنية الأردنية، قيّمت المقاومة هذه المرحلة، وخطّأت نفسها، وأدركت أهداف المخططات الإسرائيلية وخطورتها على الأردن والقضية الفلسطينية معاً، حيث ترى إسرائيل في الأردن الوطن البديل للفلسطينيين، وكان ولا يزال معرضاً لمخاطر سياسة الاستيطان والضم الزاحف وتهجير سكان الضفة الغربية إلى شرق الأردن.

    في مكان وتاريخ آخر، اعتبرت أنظمة عربية أن عرفات وقف إلى جانب نظام صدام ضد الكويت في حرب الخليج الأولى، وبالغت في مدى هذه العلاقة، محملة م.ت.ف. نتائج هذا التحالف المهزوم، مطالبة الفلسطينيين عموماً دفع أثمان الهزيمة، وعلى هذا المقياس بررت حكومات عربية تدخّلها المباشر في الحالة الفلسطينية تأزيماً وتفتيتاً.

    ومع بروز دور الإسلام السياسي في فلسطين، بحث عن تحالفات أو ارتباطات بمحاور تعتقد أنها تخدم القضية الفلسطينية وفق أجندتها ومشاريعها، هذه العلاقة أدت باعتقاد البعض إلى التبعية وارتهان قرارها لهذا المحور أو ذاك، وباعتقاد آخرين جعلها أقوى من خلال ما يصل من سلاح ودعم مالي.

    في السياسة العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل، طُرح شعار « القرار الفلسطيني المستقل» ، جاء في المادة (28) من الميثاق: «يؤكد الشعب العربي الفلسطيني أصالة ثورته الوطنية واستقلاليتها، ويرفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية». القرار الفلسطيني المستقل هو المعبر عن الكل الفلسطيني، وهو القرار المتمسك بالثوابت الوطنية التي لا يمكن التنازل عنها من قبل أي طرف أو فرد، وبالتأكيد ليس القرار الذي قاد إلى اتفاقية أوسلو. تُجمع الفصائل الفلسطينية على هذا الشعار ولكنها تختلف فيمن يصنع هذا القرار إذ ينظر البعض إلى أن القرار المستقل قد صودر من قبل تنظيم واحد ثم من قبل فرد واحد، والأصل أن صاحب الصلاحية هو «م.ت.ف.» الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتحديداً المجلس الوطني.

    وجهة النظر الثانية تقول بالاحتواء تحت شعارات «قومية» و«الحاضنة العربية»: وقد تأثرت بمرحلتين: أولاً: مرحلة المد القومي الذي انخرط فيه الفلسطينيون طوعاً في الأحزاب العربية القومية، وأشهرها حركة القوميين العرب، أدى هذا الانخراط إلى تذويب الشخصية الوطنية الفلسطينية في إطار العمل العربي الرسمي الذي أضر بالقضية الفلسطينية باعتبار أن إسرائيل سعت إلى طمس الهوية الفلسطينية، وكان المفترض من منطلق قومي إبراز الخصوصية الفلسطينية لدحض الادعاء الصهيوني أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

    المرحلة الثانية: انحسار التيار القومي منذ هزيمة الخامس من حزيران 1967 حتى سقوط النظام العراقي 2003، حيث سعت أنظمة قومية إلى فرض الوصاية على الثورة الفلسطينية، ومن ملامحها احتضان أنظمة فصيل بعينه دون الفصائل الأخرى، أو صناعة تنظيم فلسطيني موالي ولاء مطلقاً للنظام الصانع والممول، أبرز نقطة تحول في هذه الفترة اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التي كانت النقيض لسياسة التقدم نحو بلورة مشروع قومي للتصدي للوجود الإسرائيلي، وشكلت هجمة معاكسة واندفاعة نحو الحل المنفرد، محددة مساراً جديداً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ملحقة الأذى بالمشروع القومي العربي، في جانب التوصل إلى حل شامل وعادل للصراع.

    يسعى العديد من الدول الإقليمية انطلاقاً من مصالحها إلى احتواء الثورة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، لتكون «ورقة» ضغط لإثبات حضورها على المسرح السياسي الإقليمي والدولي، وتحويل «الورقة» الفلسطينية ذاتها إلى ورقة مساومة. فعلى المستوى الدولي تجهد دول لإقرار حل للمسألة الوطنية الفلسطينية ينتقص من الحقوق الوطنية، نحو حلول أدنى من قرارات الشرعية الدولية سواء في إطار حل فلسطيني إسرائيلي بشأن الحدود والقدس والاستيطان واللاجئين، أو في إطار الارتداد إلى حل إقليمي عربي إسرائيلي، يعود إلى ما قبل 1967 بحدود أدنى من حدود «تصفية آثار عدوان 1967» بشأن الأراضي العربية المحتلة، وبشأن القدس والضفة الفلسطينية والمستوطنات واللاجئين، فضلاً عن الأمن والمياه.

    تقول المادة (14) من الميثاق: مصير الأمة العربية، بل الوجود العربي بذاته رهن بمصير القضية الفلسطينية، ومن الترابط ينطلق سعي الأمة العربية وجهدها لتحرير فلسطين، ويقوم شعب فلسطين بدوره الطليعي لتحقيق هذا الهدف القومي المقدس.

    هذا الترابط والمصير المشترك لم يكن فقط بسبب الرابطة القومية، بل إن الطبيعة الصهيونية العدوانية التوسعية الاستيطانية جعل قضايا كثيرة مشتركة بين فلسطين وهذه الدولة أو تلك، منها: الأجزاء المحتلة من أراضي عدة دول عربية مجاورة، وقضية اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية لاسيما الأردن وسوريا ولبنان. واعتبر الميثاق القومي الفلسطيني في المادة (15): أن «تحرير فلسطين من ناحية عربية هو واجب قومي، لرد الغزوة الصهيونية والإمبريالية عن الوطن العربي الكبير، ولتصفية الوجود الصهيوني في فلسطين، تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية شعوباً وحكومات وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني، ومن أجل ذلك، فإن على الأمة العربية أن تعبئ جميع طاقاتها العسكرية والبشرية والمادية والروحية، للمساهمة مساهمة فعالة مع الشعب الفلسطيني في تحرير فلسطين».

    انقسمت الأنظمة ما بين أنظمة عربية تميل للتطبيع مع إسرائيل تدعي احتضان القضية الفلسطينية حين تربط كل خطوة تطبيعية بما يقابلها من انتزاع انجاز مهم من العدو لصالح القضية الفلسطينية، أو تنازل أو تراجع ما من الحكومة الاسرائيلية، وأخرى عاجزة لا تنفع أن تقوم بدور الحاضنة، تقدم الدعم اللفظي فقط، تؤكد على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب الفلسطيني لنيل حقوقه الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف، وحملت أنظمة عربية أخرى راية فلسطين وقضيتها ليس من أجل فلسطين وشعبها وقضيته العادلة، إنما أرادت إكساب سلطتها المطلقة مشروعية والتغطية على فسادها، مما ألحق بالغ الضرر بالقضية الفلسطينية، لقد أثبتت التجربة أن الحاضنة ينبغي أن تكون دولة إقليمية قادرة على الدفاع عن نفسها أولاً، قبل أن تكون قادرة على حماية الثورة الفلسطينية.

    بالنسبة للشعوب العربية بقيت تصر على دعم القضية الفلسطينية، واعتبارها القضية المركزية للعرب إلا أنها كانت غير فاعلة في التأثير على سياسة حكوماتها باتخاذ القرارات العملية والحاسمة، لدعم الثورة الفلسطينية وتقويتها، وليس صحيحاً أن الانقسام الفلسطيني واتفاقية أوسلو قد بدل هذه القناعات، إلا أن أنظمة عربية جعلتهما ذريعة للتنصل من عبء الحمل الثقيل لاحتضان القضية الفلسطينية، فغابت الحاضنة العربية الفعلية، حيث بات القرار الفلسطيني رهن أجندات عواصم غير عربية، وباتت دولٌ مثل تركيا وإيران توفّر مرجعيات جديدة للسياسة الفلسطينية.

    هناك دعوات لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب والمسلمين لا قضية الفلسطينيين وحدهم، البعض فسر بسذاجة أو لمصلحة أن تركيز الفلسطينيين على استقلالية القرار الفلسطيني، بأنهم يرفضون انخراط الشعوب والحكومات العربية في الصراع.

     في الكرك 20/5/2008 نظمت جماعة الاخوان المسلمين مهرجاناً خطابياً في الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية، تحدث فيه عدد من الخطباء مؤكدين ضرورة إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وإرجاعها الى حاضنتها العربية والإسلامية، والكف عن جعلها شأناً فلسطينياً خالصاً. وقالوا إن محاولات عدد من البلدان العربية والاسلامية التخلي عن مسؤوليتها تجاه فلسطين لن تجد طريقها الى الشعوب العربية والاسلامية التي ما زالت تعتبر فلسطين قضيتها الأولى.

    وجهة النظر الثالثة تتحدث عن معادلة الترابط المتبادل بين الوطني والقومي، الترابط الجدلي بين العام العربي والخاص الفلسطيني، معادلة قدمتها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كبديل واقعي ملموس لا يصادر العام العربي الدور الفلسطيني ولا يطمسه، كما وقع على مساحة القرن العشرين حتى 1974، ولا ينعزل الخاص الفلسطيني عن العربي العام، إذ لم تكن الرؤية واضحة في تحديد العلاقة بين فلسطين وحاضنتها العربية، ولم تقم العلاقة على أسس سليمة كتحالف مؤسس على الديمقراطية واحترام الرأي والخصوصية.

    «يؤكد التاريخ المعاصر الدور الخاص الوطني الفلسطيني، دوراً أساسياً يشكل الأرضية لعملية الصراع والحلول السياسية المتوازنة، ولتعزيز هذا الدور رفضنا سياسة إدارة الظهر لقوى وأحزاب ونقابات حركة التحرر والتقدم العربية، رفضنا هيمنة الشعار «القومي، الديني الطائفي والمذهبي» وطمس الدور والخصوصية الوطنية.

    بالأمس واليوم نواجه بكل صلابة أي تدخلات عربية أو إقليمية أو دولية بشؤوننا الداخلية الفلسطينية، أي تحويلنا إلى «أوراق تكتيكية ضاغطة» بيد هذه الأنظمة الحاكمة، واستخدامنا لصالحها المحلي الخاص بعيداً عن حقوق شعبنا.

    نحن في سياستنا الوطنية، القومية، الإقليمية، الأممية، نفتح قلوبنا إلى جميع الشعوب والدول التي تساند السلام المتوازن، سلام الشرعية الدولية برحيل الاحتلال الاسرائيلي عن الأراضي العربية المحتلة بحرب عدوان 1967، وتساند قضية شعبنا وحقوقه الوطنية، مستعدون لتقديم كل ما يلزم لتطوير وتعميق التحالفات، على قاعدة من المساواة والاحترام المتبادل، وبالتأكيد سنحافظ على استقلالية قرارنا واستقلالية طروحاتنا، فالمرجعية هي مصالح شعبنا، وقوى التحرر والديمقراطية والتقدم والسلام في البلاد العربية، في الشرق الأوسط والعالم.

    تجربة قوى التحرر والتقدم والديمقراطية مريرة مع نظام البعث العراقي الأول والثاني والثالث داخل العراق وفي المنطقة العربية، برز هذا واضحاً، ملموساً تجاه حركة المقاومة الفلسطينية قبل وأثناء أيلول/ سبتمبر 1970 وبعده، وحروب الخليج ثلاثين عاماً بعيداً عن خطوط التماس مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التوسعي، وتداعياتها المدمّرة على مسار ومصير العراق والمنطقة العربية وقضايا الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي التوسعي، مسبوقاً بارتداد السادات وحلول كامب ديفيد...

    نحن وقفنا ونقف مع كل القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية والليبرالية الوطنية، وعلى قاعدة التضامن والحوار النقدي المتبادل في البلدان العربية والشرق الأوسط.

    قدمنا الكثير لهذه القوى العربية والكردية في العراق، وأغلق النظام البعثي العراقي مكاتب الجبهة الديمقراطية في وسط التجمع الفلسطيني في بغداد حتى سقوط نظام صدام، الذي أغدق المال على اليمين الفلسطيني والعربي، وأحزاب الإسلام السياسي اليميني، حاصرنا مادياً، مالياً، سياسياً في علاقاته العربية والدولية» راجع كتاب: «الأزمـات العـربيـة فـي عيـن الـعـاصـفـة».


    http://www.alhourriah.ps/article/96889