لم يكن اللاجئ الفلسطيني في لبنان يومًا بمعزل عمّا يدور في الأراضي المحتلة، سواء أكان في قطاع غزة، أم القدس، أم الضفة الغربية، أم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولم يكن يومًا يشاهد الإبادة الجماعية كغيره من المشاهدين الذين ينتظرون نشرة الأخبار ليعرفوا عدد الشهداء والجرحى والمفقودين، والتعاطي معهم كأرقام بدون أي أحاسيس ومشاعر، ذلك لسبب بسيط: فاللاجئ وإن تهجّر من فلسطين فإن جزءًا من عائلته لا يزال فيها. وهناك آلاف اللاجئين الذين فقدوا عائلاتهم التي كانت صلة الوصل بينهم وبين الوطن.
بقدر ما أن الإبادة الجماعية التي ترتكب اليوم في قطاع غزة والضفة الغربية مؤلمة للجميع، فألم اللاجئ الفلسطيني في لبنان أكثر تعقيدًا، هو الذي فقد التواصل جزئيًا مع أهله اللاجئين أصلًا في قطاع غزة،أهله الذين يقتسمون معه قدر العيش في مخيم وأن يكونوا لاجئين في وطنهم، فاللاجئ في لبنان يشاهد التلفاز ويتتبع وسائل التواصل الاجتماعي، عسى أن يستدل على أي معلومة تربطه بأهله، وهو يرى كيف أن الأطفال تسبح في الدماء، والأمهات تقاوم بالأحشاء، والآباء يبحثون عن الأشلاء، وعن المفقودين من الأبناء.
وينظر هذا اللاجئ بالعيون الدامعة، عن أي شائعة، تعطيه الأمل رغم الألم، فهو لا يزال يبحث عن بيته الذي تركه، وينظر إلى السماء، لا يعرف ماذا يفعل تجاه مصير عائلته التي تعيش دون ماء، أو غذاء، دون دواء أو كهرباء. أَهُم تحت الركام يصارعون الموت؟ أم أن جثثهم تحللت بعد أن امتلأت المدافن، أو دفنت في أكياس نيلونية لعدم وجود الأكفان؟
يعيش في حيرة كبيرة، ماذا يفعل بتاريخه وحضارته ومستقبل عودته، بعد أن أراد الاحتلال أن يدمر كل ما يرتبط بالتراث الفلسطيني أو كل ما يدل على أن الشعب الفلسطيني هو صاحب هذه الأرض منذ آلاف السنين؟ كم هي أحلامنا بسيطة! حلم بالعودة وتقرير المصير، حلم بالعيش بكرامة وحرية، حلم بالاستقلال والدولة، حلم أن نجتمع بعائلتنا التي لم نرها، أو نعرف مكان قبور من كانوا ضحايا لنزورهم يومًا، بعد أن أصبحت المقابر جماعية، ولم تعد للميت أي حرمة. ففي أي زمن نعيش، زمن الحضارة أم زمن المؤامرات والمشاريع الكولونيالية لدعم آخر احتلال عنصري وفاشي في هذا العالم الذي يعاكس هذه الأحلام؟
ويا لسخرية القدر، لقد تفرق أجدادنا عن عائلاتهم بعد النكبة عام 1948، وتبعثروا في هذه الأرض، لكن هذا الجيل، وبفعل العولمة وسرعة التقدم الاجتماعي، بنى علاقة عائلية أكثر متانة وصلابة مع عائلته التي حرم من أن يراها، أو يضمها، واستعيدت المشاعر الجياشة، والذكريات الجميلة بين الأجداد، وأعيد بناء الجسور بين الأجيال، وكأننا نعيش معًا، وننتظر يوم اللقاء.
لم يستطع الاحتلال أن يبعدنا عن هذه الأرض، ويدمر أحلامنا، فصحيح أننا لا نسكن الوطن إلا أن الوطن يسكن فينا، ويبقى في مخليتنا، ووحدة المصير تبقى القاسم المشترك بين الداخل والشتات، وكما نهضنا من تحت الركام بعد النكبة عام 1948، سننهض مجددًا من هذه الإبادة، لنكرس مجددًا الهوية الفلسطينية التي يريد الاحتلال طمسها وإزالتها من مخيلتنا وتفكيرنا، فالأرض الفلسطينية مثل الناي، كلما ثقبها صاروخ كلما أخرجت لحنًا أعذب في الانتصار.
إن اللاجئ الفلسطيني في لبنان، المحروم من أبسط حقوقه الإنسانية، الممنوع من العمل والتملك والمحروم من الصحة والتعليم، اللاجئ الذي يسكن في أزقة مخيم لا تدخله الشمس، وحلمه أن يرى الشمس من نافذته، يرى الشمس في مخيلته متمثلة بفلسطين.
ليس في يد اللاجئ اليوم حيلة سوى الأمل والدعاء، وامتلاك الإرادة والحلم، والتفاخر بهويته الفلسطينية، التي تعبر عن مدى معاناته، بل إذا أردنا أن نعرّف المعاناة، فإنها باتت تُعرّف باسم الشعب الفلسطيني.
وينتظر هذا اللاجئ البسيط الذي لم يمتلك سوى الإرادة والصمود، يومًا يكشف فيه حنظلة عن وجهه، بعد أن وقف زمانه منذ أن أخرج أهله من فلسطين، ليبدأ حياته الجديدة، ويولد من جديد ويبني أجمل الذكريات الممزوجة بذكريات الذين ذهبوا لنبقى نقول: إننا فلسطينيون.
وأمام هذا الارتباط العضوي بالأرض، مازلنا نملك مفاتيح دارنا، ونشم تراب وطننا الذي توارثناه من أجدادنا، ونضع تراب القدس في كفن من يموت منّا، كي لا نشعر أننا غرباء عن أرض الوطن حينما نموت، حيث كانت وصية جدّي: إذا مت ولم أدفن في وطني، فضعوا تراب القدس في كفني.
صحيح أن الأمل جميل، لكن الفراق أصعب، خصوصًا أن هناك عددًا من الشهداء في عائلاتنا قد ذهبت ضحية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وكنا ننتظر أن نضمها يومًا، ويحضننا الوطن الحنون بعطفه وكرمه، إلا أن الحياة كانت دائمًا أشد قسوة، تعاند حضن الوطن الذي احتضن من نحب، وننتظر أن يحتضننا هو لا غيره من الأوطان، لذلك لن أقول للشهداء وداعًا، بل إلى اللقاء.