ثمن الحرب الأيدلوجية الصهيونية بعد طوفان الأقصى
2024-09-30
أحمد صبري السيد علي
مهما كانت نتائج الحرب الصهيونية ضدّ غزة، فبعد ما حدث في يومي 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و14 نيسان/أبريل 2024 أصبح من الضروري على الكيان الصهيوني كي يضمن الاستمرار لفترة أطول أن يعيد ضخ الحيوية مرة أخرى لأيديولوجيته الصهيونية المترهلة.
لا ريب أنّ ثمة أوضاعاً جديدة فرضت نفسها على واقع المنطقة الآن، لعل أهمها: تحطيم الصيغة التي قام عليها الكيان الصهيوني كجزيرة آمنة محمية لا يُسمح لأي دولة مهما كانت أن تحطّمها عبر القصف لعمقها، والأمر هنا يتعلق بهيبة هذا الكيان الممثل لمصالح الغرب الرأسمالي، وهيبة من يحمونه بكل تأكيد؛ لكن صورة هذا الكيان تهشّمت بعد عملية أكتوبر الماضي، لتكمل عليها الضربة الإيرانية غير المسبوقة والتي فشلت الولايات المتحدة وأوروبا في منع انطلاقها، كما فشلت منظومات الدفاع الجوي التابعة للناتو في إيقاف سقوط الصواريخ على العمق الصهيوني.
ما أظهرته الضربة الإيرانية هو أن المساحة الصغيرة للكيان الصهيوني تجعل عمقه الداخلي هشاً للغاية في مواجهة أي ضربة من دولة كبيرة المساحة والتعداد السكاني كإيران، ومهما كان تأثير الضربة الإيرانية على الكيان الصهيوني، فلا ريب أنه يعدّ حدثاً مهماً للغاية، كشف عن أن هذا الكيان لا يمكن اعتباره حتى الآن جزيرة آمنة بعد ما أمطرته المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق بالصواريخ، وحوّلت عدداً كبيراً من سكانه إلى لاجئين داخل كيانهم.
سابقاً، اعتاد الكيان الصهيوني على نقل الحرب إلى أرض الخصم، وسواء كان منتصراً أو مهزوماً فدمار الحرب على أرض الخصم وليس على ما يزعم أنها أراضيه، والتشريد والتهجير يقع على مواطني خصومه وليس على مواطنيه، فكلفة الحرب إذاً يتحمّل الخصوم أكثرها في الهزيمة والانتصار. لكن المواجهة هذه المرة تبدو مختلفة ومتعادلة جداً، فالتشريد والتهجير والتدمير متبادل بيننا وبينه ومن هنا تأتي أهمية هذه الحرب الأخيرة وخطورتها.
يعتمد الكيان الصهيوني في بقائه على أيدلوجيته الصهيونية المخلقة في معامل أوروبا خلال القرن التاسع عشر، والتي تقوم على أسطورة القومية العرقية ونقاء الدم اليهودي، متجاهلة الحقائق التاريخية بكون هذه الديانة اعتنقها عدد من الشعوب من بينهم العرب، إلى درجة وجود باب في الفقه اليهودي حول معمودية الدخلاء وقسميها: دخلاء الأبواب وهم الذين أعلنوا إيمانهم بإله "إسرائيل" لكنهم لم يختتنوا؛ ومعمودية دخلاء البر وهم الذين طبّقوا الشروط الثلاثة (الختان – المعمودية – تقديم الذبائح).
هذا التعارض الجوهري بين الصهيونية كأيدولوجية مؤسسة للكيان الصهيوني، وبين التاريخ وحتى اليهودية كدين، يمثّل نقطة ضعف كبيرة لدى الكيان الصهيوني، بحيث أصبح الرابط الوحيد بينه وبين مواطنيه هو شعورهم بالدعم الغربي والأمن وعدم قدرة المحيط العربي على اختراق عمقهم الداخلي، ومع بداية تراجع الميزة الأولى، وتحطّم الميزة الثانية عقب طوفان الأقصى والأزمات الاقتصادية التي تواجه الرأسمالية عموماً، فإن الخزان البشري اليهودي الذي تعتمد عليه الأيدولوجية الصهيونية وكيانها سيعاني في الفترة المقبلة من ضعف الهجرات اليهودية إليه في مقابل زيادة نسب الهجرات المضادة من الكيان إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يهدّد بتفكيك الكيان الصهيوني تلقائياً.
لا يبدو أن هناك حلاً واقعياً لهذه المشكلة سوى محاولة ترميم صورة الكيان الصهيوني كأداة ردع يمنح بعض الوهج لتلك الأيدولوجية المشوّهة، عبر إعادة الاعتبار لسياسة التوسّع وهو ما يهدّد الدول العربية المجاورة، وإذا ما افترضنا أن كلفة التوسّع باتجاه مصر أو لبنان أو سوريا في الفترة الحالية سوف تكون كبيرة وغير مضمونة العواقب فإن بدايات التوسّع قد تطال بعض الأراضي الأردنية، وربما كان هذا هو ما يقصده رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عبر تصريحاته المتكررة منذ 7 أكتوبر الماضي بأن كيانه سيغيّر خارطة الشرق الأوسط.
قد يعتقد البعض أنّ مثل هذا التصوّر فيه الكثير من المبالغة أو المجازفة، لكن التاريخ يشير إلى أن أراضي شرق خليج العقبة والتي كانت تدعى سابقاً مدين أو مديان شهدت أول محاولة لتأسيس مستعمرة صهيونية بواسطة بول فريدمان، وهو مغامر ألماني بروتستانتي من أصل يهودي، وقد بدأت القصة في سنة 1891 عندما أقدم فريدمان على مغامرة عسكرية تهدف لإقامة مستوطنة يهودية في المنطقة التي أطلق عليها "أرض مدين"، وهي المنطقة الساحلية الواقعة في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية، والتي تتاخم حدود مدينة العقبة وتمتد حتى ميناء الوجه جنوباً، وكانت في تلك الفترة ما زالت خاضعة للسيادة المصرية.
كان مشروع فريدمان يسعى لإنشاء دولة يهودية في المنطقة (أرض مدين/مديان)، وإنشاء قناة يهودية تربط ما بين حيفا والبحر الأحمر بالعقبة، ونجاح هذه القناة، من وجهة نظره، سيحطّم قناة السويس، وقد تأثر فريدمان بكتاب ريتشارد برتون عن أرض مدين/مديان الذي نشره في سنة 1879، حيث أسهب في وصف الثروات الكامنة في المنطقة من مناجم ذهب ومعادن ثمينة مما أثار أطماع فريدمان الذي رتّب زيارات لهذه المنطقة في سنة 1890، مستعيناً بثروته الكبيرة التي ورثها عن أسرته اليهودية، حيث عاد محمّلاً بعدد من الصناديق المليئة بعيّنات من الصخور والمعادن ليقوم بتحليلها في مختبرات أوروبا، كما نشر في برلين كتاباً عن (أرض مدين/مديان) تحدّث فيه عن المنطقة وثرواتها الطبيعية وطبيعة سكانها المسالمة ومناخها الملائم لإقامة استيطان يهودي، مما سيوفّر لليهود إمكانيات اقتصادية هائلة تعينهم فيما بعد على مدّ نفوذهم إلى فلسطين والبلاد المجاورة في المنطقة.
ومن الواضح أن مساعي فريدمان كانت تحوز على رضا البريطانيين بواسطة المعتمد البريطاني إفلين بارنج (اللورد كرومر)، والذي نصح فريدمان بالتوجّه إلى لندن وتقديم مذكرة بمشروعه إلى رئيس الوزراء البريطاني والذي تضمن النقاط الآتية:
1- التمهيد لحلّ مشكلة يهود أوروبا الشرقية عن طريق البدء في تهجيرهم إلى مدين/مديان لإنقاذهم من المعاناة التي يتعرّضون لها في أماكن سكناهم، وحمايتهم من الانخراط في الأحزاب الثورية، ووضع حدّ لهجرتهم إلى أوروبا الغربية والعالم الجديد.
2- تشكيل قوة مسلحة تتلقّى تدريبات عسكرية على يد ضباط محترفين لتتمكّن من فرض هيبتها على البدو، والمحافظة بالتالي على أمن واستقرار المنطقة.
3- إقامة مستعمرة يهودية تتمتّع بالاستقلال الذاتي تحت إشراف بريطانيا.
4- إنشاء خط سكة حديد يربط مصر بالهند، ويقوم المستوطنون اليهود بتوفير الحماية اللازمة له.
قام فريدمان بجمع المتطوّعين اليهود الراغبين في مشاركته بهذا المشروع وكان من بينهم ثلاثون يهودياً روسياً، وتلقّى هؤلاء المتطوعون تدريبات في معسكرات بالمجر، تحت إشراف ثلاثة أشخاص أحدهم روسي وضابطا صف من يهود النمسا، وبعد انتهاء التدريبات حمل المتطوّعين عبر يخت سماه (إسرائيل)، بالإضافة إلى عدد من المدافع وكميات من الذخائر والعتاد، وتحرّك من ميناء ساوثهامبتون في بريطانيا تحت العلم النمساوي في تشرين الثاني/نوفمبر 1891، وعند وصوله إلى الإسكندرية انضم للحملة ثلاثون يهودياً مصرياً.
لكنّ مشروع فريدمان لم يحقّق نجاحاً بالرغم من لا مبالاة الحكومة المصرية تجاهه، إلا أن القبائل البدوية في المنطقة رفضته واضطرّوا إلى اللجوء للدولة العثمانية التي تدخّلت لإيقافه، كما حدثت العديد من التمردات بين المتطوعين نتيجة النظام الصارم الذي فرضه عليهم فريدمان، وعقب وصول بعض المتمردين من المتطوعين معه إلى القاهرة بعد قيامه بطردهم من مستوطنته، تلقّت منهم الصحف المصرية الأنباء حول هذا المشروع الفاشل، مما أجبره في النهاية على الرحيل من المنطقة نتيجة تصاعد الخلافات بين الدولة العثمانية والحكومة المصرية بسبب مغامرته.
لم يكن مشروع فريدمان هو الأول لتحقيق الاستيطان اليهودي بشرق الأردن، فقد سبقه مشروع الاسكتلندي لورنس أوليفانت سنة 1879، وإن كان لم يرَ النور لأسباب تتعلق بالدولة العثمانية، لكن أهمية خطوة بول فريدمان أنها كانت أول خطوة عملية في هذا الاتجاه.
ربما يعتقد البعض أن هذا الحدث يأتي من التاريخ ولا يمكن تصوّر تكرار حدوثه في الواقع الحالي، وهو بالتأكيد لن يتكرّر بالصيغة نفسها، وربما لن يتكرّر على المساحة نفسها من الأرض، لكن في المقابل، لا يمكن الاستهانة بالتجارب التي سجّلها التاريخ فهي بدورها تظل ماثلة لدى الأذهان، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من شرق الأردن في الذهن الصهيوني الذي يرى ومنذ زئيف جابوتنسكي أنّ لنهر الأردن ضفتين كلتيهما يجب أن تكونا للكيان الصهيوني، معتبراً أن الكيان الصهيوني يجب أن يقوم على حدوده التوراتية والتي تشمل الأردن كذلك، وهو ما كان يخطط له المفوّض السامي البريطاني الأول بفلسطين هربرت صموئيل، وما دفعه لمنح الصهيوني بنحاس روتنبرغ عام 1921 حقّ امتياز استغلال النهرين (اليرموك والأردن) لتوليد الطاقة الكهربائية في منطقة الناقورة الأردنية جنوب بحيرة طبريا لإنارة المناطق الفلسطينية والأردنية أثناء الانتداب البريطاني.
وفي المقابل لا يتوانى رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، عن الإشارة إلى تضحيات صهيونية مزعومة عبر القبول بالتخلّي عن الأردن، متهماً بريطانيا بانتزاع 80% من الوطن القومي اليهودي بجرّة قلم من أجل إرضاء العرب وكسباً لودهم، ومؤخراً قام وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش بعرض خارطة للكيان الصهيوني في باريس ضمت الأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة) بالإضافة إلى أراضي الأردن؛ ومثل هذه الإشارات ليست مجرد كلام فارغ من المضمون، فبالنسبة لقادة الكيان الصهيوني سوف يظل الأردن موقعاً قابلاً للتوسّع من خلاله إذا ما وضعنا في الاعتبار التطورات الحالية التي قد تجبرهم على مثل هذه الخطوة بغض النظر عن الأساليب والسياقات المستخدمة لاتخاذها.
لقد برزت الأردن في السابق كدولة عازلة ما بين فلسطين والقبائل العربية في الحجاز، وبحسب الباحث عصام السعدي: "بعد قيام دولة إسرائيل على أرض الشعب الفلسطيني عام 1948، أراد النظام الرسمي العربي المأزوم والمهزوم في آن معاً للدولة الأردنية أن تكون دولة عازلة بين الدولة اليهودية التي لم تخفِ أطماعها في المشرق العربي عبر إعلانها المستمر أنّ إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين عام 1948 لم يكن غير المرحلة الأولى في إقامة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، فأغدق النظام الرسمي العربي منذ قيام "دولة إسرائيل" وبخاصة المملكة العربية السعودية، رغم ما بينها وبين الأسرة الهاشمية في الأردن، من كره وحقد وخلاف وتضارب في المصالح، على النظام الأردني الدعم بمختلف أشكاله، كدولة مواجهة لها أطول خطوط حرب مع الدولة الصهيونية بعد هزيمة عام 1967، وما ألحقته الدولة الصهيونية بالنظام الرسمي العربي من خوف على مستقبله من استراتيجية التمرّد والتوسّع الصهيوني على حساب الوطن العربي في المشرق، تلك الاستراتيجية التي اعتمدت مبدأ التوسّع لاستكمال مخططها في بناء دولة إسرائيل الكبرى، مرحلة الخطوة خطوة في إنجاز استراتيجيتها. بمعنى آخر لقد أرادت دولة الكيان الصهيوني الأردن دولة عازلة لخطر مشروع النهوض والتحرر العربي عليها، في حين أرادها النظام الرسمي العربي دولة عازلة لمخططات التوسّع الصهيوني على حساب هذه الأنظمة".
وإذا كانت هذه هي دوافع النظام الرسمي العربي لدعم الأردن سابقاً، فإن التساؤل حول مدى استمرارية هذا الدعم الذي تراجع منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي شهد توقيع اتفاقية وادي عربه بين الأردن والكيان الصهيوني سنة 1994، وهي التي فتحت المجال لاحقاً لاتفاقيات مع دول عربية أخرى، وبالتالي سنكون مضطرين إلى وضع علامات استفهام حول المشروعات المستقبلية بخصوص الأردن عقب تراجع مكانته كدولة عازلة لم يعد النظام العربي الرسمي ولا الكيان الصهيوني بحاجة لها الآن؟!
قد عبّر المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب عن حاجة الكيان الصهيوني للتوسّع، بصورة صريحة في أحد خطاباته الانتخابية مؤخراً، ومن المؤكد أن توقيت التصريح لا يسمح بتفسيره كمجرد دعاية انتخابية، وإنما كمشروع فرضته ظروف الحرب الأخيرة وما كشفته من حالة الهزال التي أصابت الأيدولوجية الصهيونية والتي تحتاج لتحقيق انتصارات تعيد توهّجها لفترة مقبلة عبر تنفيذ رؤية جابوتنسكي مما سينظر إليه كانتصار معنوي ضخم، بالإضافة إلى معالجة هشاشة العمق الصهيوني والتمكّن من إحكام الحصار حول الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لإضعاف قدرات المقاومة، كضمان لعدم تكرار ما حدث في 7 أكتوبر الماضي مرة أخرى.
إذاً، لا يمكن اعتبار المخاطر المحتملة بخصوص الأردن مجرد تنبؤات أو توقّعات، فهي في الحقيقة مشروعات تراكمت صياغاتها منذ القرن التاسع عشر، وربما يرى قادة الكيان الصهيوني ورعاتهم أن الوقت قد حان لفتح هذا الملف بعد أن تغيّرت الأوضاع والتوازنات في المنطقة وأصبحت المخاطر حول الكيان الصهيوني لا يستهان بها، الأمر الذي يهدّد وجوده في المستقبل القريب.