عمرو حمزاوي:
على الرغم من حتمية الرد الإيراني على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية في طهران ومن الاحتمالية المرتفعة لفعل مضاد من "حزب الله" اللبناني بعد قتل الجيش الإسرائيلي لفؤاد شكر، ما زلتُ على قناعتي بكون صناع القرار في الجمهورية الإسلامية لا يريدون التورط في حرب مفتوحة مع الدولة العبرية، ولا يفضلون أن ينجرف التصعيد على الجبهة اللبنانية إلى مواجهات غير محسوبة.
لذلك، وحين يأتي الرد الإيراني، فإنه سيعتمد على الأرجح على هجمات على أهداف عسكرية في إسرائيل، سيأتي بعضها من إيران مباشرةً وبعضها الآخر من ساحات حلفائها في العراق واليمن، وقليل منها سيضطلع به "حزب الله" الذي تحسب أفعاله في إيران ولبنان بميزان دقيق للغاية.
لن تجازف الحكومة الإيرانية بردٍّ يُخرج الأمر عن السيطرة ويدفع المنطقة إلى هاوية حرب إقليمية، ولن تضغط على "حزب الله" للمغامرة العسكرية على نحو قد يرتب هجوماً إسرائيلياً شرساً على بنيته العسكرية والتنظيمية، وذلك بعد أن استثمرت الجمهورية الإسلامية طويلاً في بناء الحزب وتسليحه.
في الإستراتيجية الإيرانية تجاه إسرائيل ثمة مكان للمغامرات العسكرية محفوظ للميليشيات العراقية ولجماعة الحوثيين في اليمن، والمجموعات تلك تظل بعيدة جغرافياً عن قلب الصراع حول فلسطين وليس لها حدود مباشرة مع إسرائيل، ومن ثم تستطيع التورط في بعض الأفعال محدودة التأثير غير المحسوبة بدقة كإطلاق صواريخ من هنا ومسيّرات من هناك. أما الثقل العسكري الحقيقي لإيران ولحليفها الإقليمي الأول "حزب الله"، فلن يدفع به إلى محرقة التصعيد غير المحسوب والحرب الواسعة مع طرف إسرائيلي يملك قدرات تدميرية هائلة.
في الإستراتيجية الإيرانية أيضاً ثمة أولوية واضحة لاستهداف الأطراف المعادية من خلال الاستنزاف التدريجي وطويل المدى على النحو الذي مارسته الجمهورية الإسلامية مع حكم صدام حسين في العراق بين ١٩٧٩ و٢٠٠٣، ثم مع الغازي الأميركي لبلاد الرافدين بين ٢٠٠٣ و٢٠١١، وعلى النحو الذي وظفه "حزب الله" في لبنان إلى أن انسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب في ٢٠٠٠ ووظفته "حماس" في غزة حتى انسحبت القوات الإسرائيلية أحادياً في ٢٠٠٥.
بعيداً عن التهويل الدعائي والخطاب الرسمي ذي المفردات الدينية والسياسية الحادة التي تهدد إسرائيل بالفناء مهما أيدها الغرب، وتدفع بقرب النصر الإلهي للمقاومة مهما كانت خسائرها الراهنة، فإن الواقع الإستراتيجي والحركي للسياسة الإيرانية هو خليط من مواجهات محدودة ومحسوبة بدقة مع الشيطانَين الأكبر الولايات المتحدة والأصغر إسرائيل، ومن استنزاف على نار هادئة لمواقعهما في الشرق الأوسط يستهدف تعميق نفوذ الجمهورية الإسلامية وحلفائها، ويؤمن لهم شروطاً تفضيلية حين تتفاوض الأطراف المتصارعة، إن على مستقبل المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل، أو على دور الميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن، أو على مستقبل "حماس" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك تحديداً هو ما حدث في العراق قبيل الانسحاب الأميركي في ٢٠١١ واستحوذ على إثره حلفاء إيران على مؤسسات الحكم والدولة.
لكل ذلك، ستشهد الأيام المقبلة على الأرجح بعض الهجمات الإيرانية على إسرائيل، وبعض صواريخ ومسيّرات الفصائل العراقية والحوثيين، وبعض ردود الأفعال من قبل "حزب الله" لتذكير نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، وكذلك القوى الدولية المؤثرة في القرار الإسرائيلي بالأخطار الواردة على أمن الدولة العبرية والاستقرار الإقليمي؛ ما لم تتوقف الحرب في غزة وملحقاتها. تلك هي رسائل الردع التي ستطلقها إيران، وتستهدف من خلالها إبعاد شبح المواجهة غير المحسوبة والحرب الواسعة من خلال التذكير بكلفتها المرتفعة أيضاً على إسرائيل.
تلك هي حسابات إيران وحلفائها، وإزاءَها يظل السؤال الحاسم هو ما إذا كانت حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل تتخوف من كلفة مواجهة شاملة مع الجمهورية الإسلامية، أو من أخطار حرب مع "حزب الله" اللبناني تتحول إلى حرب إقليمية مع حلفاء إيران، أم تريدهما لاعتبارات داخلية وخارجية متنوعة.
الشاهد أن الوضع الراهن في المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل والهجمات المتبادلة والمتكررة بين "حزب الله" والقوات الإسرائيلية منذ أكتوبر ٢٠٢٣، وما أسفرت عنه إسرائيلياً من تهجير أكثر من ١٠٠ ألف مواطن ومواطنة بعيداً عن مناطق سكنهم، هي عوامل تضغط بشدة على حكومة نتنياهو لتنفيذ إجراءات عسكرية أو سياسية تعيد شيئاً من الهدوء والاستقرار، وتسمح بإعادة هؤلاء المهجرين إلى مناطقهم. غير أن نتنياهو والمتحالفين معه من اليمينيين المتطرفين، وبينما تطالبهم الولايات المتحدة والدول الغربية بالتعويل على الحل السياسي والدبلوماسي، لا يرون غير التصعيد العسكري بديلاً ممكناً، وتداعب خيالهم - ودون حسابات دقيقة للكلفة البشرية والمادية - أوهام التخلص من سلاح "حزب الله" والقضاء على بنيته العسكرية والتنظيمية على النحو الذي يصرون عليه تجاه "حماس" في غزة.
والشاهد أيضاً أن ما يبدو من اندفاع حكومة نتنياهو نحو مزيد من الضغط على "حزب الله" بقتل فؤاد شكر، ومزيد من الضغط على إيران باغتيال هنية على أرضها، ومن ثم تفجير الحرب الواسعة تسانده (وفقاً لاستطلاعات الرأي العام) أغلبية واضحة بين مواطنات ومواطني إسرائيل الذين يتأثرون بخليط اعتبارات، منها مسألة المهجرين، ومنها القناعة العامة بكون بلادهم تواجه خطراً وجودياً، ومنها شعبية سياسات اليمين المتطرف بين قطاعات واسعة من السكان، وهي ذات القطاعات التي ما لبثت تساند الحرب المدمرة في غزة، ولا ترى في الدمار الشامل الذي لحق بالقطاع غير نتيجة لهجمات "حماس"، وتتجاهل حقائق الحصار والاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية.
ومع اقتراب ما تسميه الحكومة الإسرائيلية "عمليات عسكرية مكثفة" في غزة من التوقف، قد تكون الحرب الواسعة مع إيران وحلفائها عبر بوابة "حزب الله"، وعلى الرغم من الرفض الأميركي والأوروبي، هي وسيلة نتنياهو وبن غفير وسموتريتش للإبقاء على تماسك حكومتهم وإبعاد شبح الانتخابات البرلمانية المبكرة، والاحتفاظ بالأغلبية المؤيدة لهم معبأة شعبياً. بل إن الحرب الواسعة تلك قد تكون وسيلتهم للضغط على الولايات المتحدة وأوروبا للحصول على مزيد من الدعم العسكري والمالي، وبحشد القوى اليمينية والمحافظة في الغرب لتأييدهم؛ بادعاء مواجهتهم لتهديدات إيران وحلفائها ليس فقط لأمن ومصالح الدولة العبرية، بل للأمن الإقليمي ولمصالح الغرب في الشرق الأوسط.
حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل هي المقامر الأكبر في الشرق الأوسط اليوم، والطرف الذي يقدم المواجهات العسكرية والحروب على التسويات السياسية والحلول الدبلوماسية. ليست حسابات إيران وحلفائها جوهر الخطر الراهن، بل مقامرات نتنياهو وحلفائه.