بالرسم على صناديق المساعدات.. أحمد مهنا يوثق حياة الغزيين
2024-08-04
كأنها أعمال من حضارات قديمة، يسعى الفنان الغزي أحمد مهنا لتوثيق العدوان على غزة، وما يرافقه من نزوح وتجويع وإبادة، لكن ليس من خلال الرسم على الجدران، بل عن طريق الرسم على صناديق المساعدات، التي تصل إلى القطاع المحاصَر بالتقطير.
يقول مهنا إن "الهدف من الرسم ليس توثيق ما يحدث من جرائم فحسب، بل إيصال رسالة إلى العالم، مفادها أن هناك شعباً في قطاع غزة يحب الحياة، ولديه حاجات متعددة عدا الطعام والشراب. شعب يريد أن يحيا من خلال الفن الذي يمثل برقية سريعة تخبر العالم بضرورة وقف الإبادة الجماعية والنزوح القسري وعدم اعتياد المشهد، في ظل صمت دولي مطبق".
يروي أحمد مهنا أنه كونه مواطناً يقطن في المدينة المحاصَرة، اعتاد دوماً على تحدي الظروف وعدم التقيد بالوسائل الروتينية التي يتبعها فنانو العالم ليرى فنهم النور، فعندما لا يجد الأدوات الملائمة، ينتقل إلى الرسم على ما هو متاح له، كورقة وقلم مثلاً، أو ربما جدار، وقد تفي بالغرض قطعة قماش، أو لوح زجاجي أو خشبي تُرك مهملاً مدة طويلة، لكن بعين الفنان فإن هذه الأشياء "البالية" يمكن أن تتحول إلى لوحة فنية ملهمة.
"كونك تسكن في مقابل مدرسة تابعة لوكالة الأونروا، فهذا محفز أساسي على الرسم"، يلفت مهنا إلى مشاهد النازحين إلى الملاجئ في اللحظات الأولى من العدوان والفارين من المجازر التي يرتكبها الاحتلال في مخيمات النزوح، وطوابير الحصول على المياه والخبز والحطب، ومشاهد حمل الجرحى على الأكتاف. جميعها أمور أجبرت مهنا على التحرك ونقل قهره وغصته على الورق ومنها إلى العالم.
لا ينكر الفنان الغزي أنه ترك بصمته في كل مكان حل فيه، سواء عبر لوحة أو جدارية عبّرت عن قضية إنسانية، واليوم تحديداً كان من الصعب الوقوف مكتوف اليدين وسط ما يشاهده من أهوال، فتسلح بقلمه الفحمي، وقسم "الكرتونة" إلى 4 لوحات، ليشرع في أولى لوحاته وهي "طفلة الأعوام الأربعة تحمل غالون مياه وزنه 16 لتراً"، وينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا كانت المفاجأة.
حظي الرسم بتفاعل كبير لم يكن متوقعاً على الإطلاق، وكذلك المطالبات المستمرة بنقل قضايا أخرى يعانيها النازحون، ليصبح مهنا اليوم "منارة" لكثيرين من الفنانين، ومالكاً للعشرات من تلك القطع الفنية، والتي تخبر العالم، عبر خطوط بسيطة، بمعنى التطهير العرقي الذي يحدث في غزة، من خلال لوحات تحمل عناوين متعددة، منها "الهروب من الموت"، و"الحضن الأخير" وغيرهما.
يصف أحمد مهنا اللوحة بأنها حالة يعيشها لمرة واحدة فقط، فيُسقط داخلها تلك المشاعر، سواء كانت حباً أو خوفاً أو غضباً أو حزناً عميقاً. بناءً عليه، فإنه يحاول أن يشبع لوحته بالتفاصيل التي تنقل الواقع المعيش، كلوحة الدوائر المتصلة التي تشبه الدوامات المحيطة بحياة قاطني مدينة الموت من أجل توفير الحاجات الأساسية يومياً، وحركة المارين من وإلى المستشفى، والتي أصبحت ضمن رويتنهم اليومي بفعل كثافة الغارات وانتشار الأمراض.
ولأن الخيمة هي البطل الأساسي في قصص النزوح الفلسطيني، فإن مهنا ينقلها إلى اللوحة مع كثير من التفاصيل الملحقة بها، كدرجة الحرارة التي تذيب أجساد النازحين كل يوم، والحشرات، والعقارب، والأفاعي التي تحيط بهم كجيش بربري من كل اتجاه، والأصوات التي تقذف من كل حدب وصوب لاغية مبدأ خصوصية الأفراد، أو حاجة الإنسان إلى الراحة والهدوء.
"لم يبق أحد لم تؤثر فيه الحرب"؛ يروي أحمد مهنا الذي كان موظفاً في إحدى المؤسسات في قطاع غزة، والتي تُعنى بالفن. فَقَدَ مهنا عمله واضطر إلى البحث عن بديل يوفر له قُوت يومه، فسعى لفتح كشك لبيع الشاي والقهوة لكن على طريقته، جاعلاً جدرانه عبارة عن لوحات يتوقف المارة ليس لنيل القهوة المقدَّمة، بل لتأمل اللوحات بنظرات احترام لصانعها الماهر كأنهم يوجهون إليه عبارات الشكر على ما ينقل من معاناتهم.
كغيره، لم يستوعب مهنا حرب الإبادة القائمة إلا بعد 3 أشهر من المجازر، بحيث نفض عنه رداء اليأس وقرر الوقوف من جديد. هكذا فتح مرسمه الخاص، الذي يقع تحت منزله. حينها، فقط، شعر بأنه رجع إلى العالم الذي ينتمي إليه وسط نظرات الأطفال الهاربين من ملل مركز الإيواء، والتي باتت تحيط به من كل اتجاه، لتذكره بدوره المجتمعي في إدارة ورشات تفريغ نفسي لهم عن طريق الرسم.
ويعرّف مهنا عن نفسه بأنه فنان شارع. لذلك، فإن رسومه تعبّر دائماً عن حال المجتمع وأوضاعه. من رسم البيوت المهدمة ولون الركام، يعطي مهنا المارةَ أملاً في مدينة باتت خراباً. كما نقل صور الجثث والأشلاء والمقابر الجماعية وحزن الأمهات الثكالى على أبنائهن وصرخاتهن على من تبقى منهم تحت الركام، ولم يستطِعن إخراجه، كما صوّر المجاعة في شمالي مدينة غزة.
يواجه أحمد مهنا صعوبة في الحصول على المواد الخام. فأقلام الفحم قد تنفد في أي وقت. كما أن صناديق المساعدات بات من الصعب الحصول عليها في ظل ازدياد أزمة الغاز، إذ يفضل السكان إحراقها من أجل إعداد الطعام بدلاً من إنتاج عدة لوحات ينظرون إليها وهم يتضورون جوعاً، مشيراً إلى أنه يواجه المشكلة ذاتها، التي دفعته إلى إشعال النيران بالأخشاب التي تسند لوحاته، لكنه ما زال يحاول ليبقى الفن حياً في غزة على رغم كل شيء.