سيغريد كاغ، إعادة إعمار غزة في ظلّ الابتزاز الصهيوني الأميركي
2024-07-14
علاء ابو عامر
إذا سألت نازحاً غزيّاً اليوم سواء نزح مرة واحدة في داخل منطقته، أو من أولئك الذين نزحوا مرات عديدة من بيته في أقصى الشمال من بيت حانون أو جباليا أو بيت لاهيا أو مدينة غزة مروراً بالمنطقة الوسطى نزولاً إلى رفح وخان يونس وصعوداً مرة أخرى إلى الأماكن نفسها التي هُجّر منها بالقوة، عن حُلمه، سيجيبك من دون تردّد، أن أعود إلى بيتي، أن أعود إلى حياتي الطبيعية قبل تسعة أشهر، أن أحصل على حمام دافئ، أن أتناول طعامي المعتاد، أن آكل ثلاث وجبات يومية كباقي البشر، بل إنك قد تقرأ إجابة من فتاة غزيّة منشورة على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي أنّ حلمها في هذا الصيف الحار أن تحصل على كأس من الماء البارد.
لقد باتت أحلام الغزيّين صغيرة، صغيرة كما لم تكن يوماً هكذا، هذا الحلم أو الأحلام هي أحلام كلّ البشر الأسوياء، وهو الطبيعي الذي يجب أن يكون عليه الأمر، الطبيعي أن يلجأ الإنسان في الحروب إلى مكان آمن، الطبيعي الذي حصل ويجب أن يحصل في كلّ الحروب أن توفّر الدول المجاورة والبعيدة أماكن آمنة وملاذات لأولئك الذين يتعرّضون للحروب والكوارث، لكن في حال غزة، أوصدت الأبواب المجاورة، مهما تعدّدت الأسباب خلف الإيصاد، ولا مكان آمناً، كلّ قطاع غزة منطقة عمليات عسكرية، كلّها حقول للموت والجوع والعطش في سياسة معلنة لحرب الإبادة الجماعية من قبل حكومة العدو وحلفائه، فبعض قادة الغرب أيّدوا الإجراءات الصهيونية التي أعلنها وزير حرب العدو يوأف غالنت اليهودي الروماني الأصل (نسبة إلى جمهورية رومانيا) على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنهم.
دُمّرت مدن قطاع غزة ومخيّماته دُمّرت بدرجة تصل إلى تسعين بالمئة، والبيوت التي لم تُدمّر بالكامل دُمّرت جزئياً، عندما تنتهي الحرب سيخرج الغزيّون كلّ الغزيّين من خيامهم التي سلقت أجسادهم نتيجة الحرارة العالية التي لا تطاق إلى المجهول، أو في أحسن الأحوال إلى الخيام نفسها التي سينقلونها إلى بقعة جغرافية أقرب إلى ركام منازلهم، ستنتهي مأساة الحرب التي طالت أكثر من المعتاد، وتستمرّ حرب من نوع جديد، حرب التأقلم مع حياة عاشها بعضٌ من أجدادهم الذين نزحوا أو لجأوا عام 1948 في داخل وطنهم أو خارجه بعد أن تركوا مدنهم وقراهم العامرة بالحياة والأمل والسعادة إلى المجهول، المجهول نفسه ما زال يتكرّر وسيتكرّر طالما ظلت الصهيونية كلّ أنواع الصهيونية مسيطرة على حضارة الغرب ونخبه السياسية وامتداداتها العربية من كمب ديفيدية وأوسلوية ووادي عربية وإبراهيمية.
السؤال المُلّح اليوم الذي تطرحه النساء الغزيّات وكذلك الرجال، هل ستكون هناك إعادة إعمار لما دُمّر في قطاع غزة، إذ لا يمكن للمرأة الفلسطينية العيش إلا في مملكتها، بيتها، مطبخها، حديقتها، أو "أصيص" أو أحواض زراعتها، حيث النعنع والريحان، وبعض الميرمية والزعتر، والحبق.
كيف لن يكون هذا حاضراً عند العودة إلى البيوت؟ فلا بيوت ستكون بانتظارهنّ بل ركام؟ أو الردم باللهجة الفلسطينية؟
الأمم المتحدة وإعادة الإعمار
ستظلّ قضية أو ملف إعادة الإعمار في قطاع غزة واحدة من أهم القضايا في اليوم التالي لانتهاء الحرب، طالما أنّ الركام والدمار الهائل في كلّ مناحي الحياة سيظلّ ماثلاً أمام عيون الغزيّين، وسيبقى هذا الملف هو الورقة الأقوى والمعادلة لحرب الإبادة في يد الصهاينة وحلفائهم الأميركيين والإبراهيميين، فنتيجته تطهير عرقيّ بطيء مستقبلاً من القطاع إلى حيث شاءت المنافي القريبة والبعيدة، فالشروط والمعوّقات التي سيضعونها أو وضعوها سلفاً ستظلّ سيفاً مشرّعاً لتحقيق أهداف سياسية عجزت عن تحقيقها الحرب العسكرية التدميرية وعلى مدى أكثر من تسعة شهور مضت.
انتبه السيد أنطونيو غوتيريتش الإنساني اليساري البرتغالي (الذي أثبت خلال الحرب أن مواقفه تفوّقت على بعض قادة العرب) لأهمية ملف المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، فكلّف واحدة من أكفأ الدبلوماسيّين في العالم السيدة الهولندية "سيجريد كاغ" الفلسطينية العائلة زوجاً وأبناء، سيدة تتحدث بثماني لغات منها العربية، وحصلت على أعلى درجات التأهيل السياسي من أهم الجامعات العالمية، وعملت في الشرق الأوسط بملفات عديدة، وشغلت منصب نائبة رئيس وزراء في بلادها، ورئيسة لأحد الأحزاب الهولندية الذي قادته للفوز في الانتخابات التشريعية.
تُقدّر المنظمات الأممية كلفة إعادة إعمار قطاع غزة بما يزيد على الأربعين مليار دولار أميركي، ووظيفة السيدة "كاغ" ليس جمع التبرّعات والأموال بل إدارتها وتنسيقها لصرفها وتوجيهها بهدف إعادة الإعمار، السؤال الذي يمكن أن يُطرح، رغم الكفاءة العالية التي تتمتع بها الدبلوماسية الهولندية، هل باستطاعتها تجاوز العقبات والشروط الصهيوأميركية والإبراهيمية؟
وهذه الشروط هي نزع سلاح المقاومة، وعدم عودة حماس إلى حكم قطاع غزة، واستبدالها بحكم السلطة الوطنية الفلسطينية، والسماح للقوات الصهيونية بالعمل في القطاع وفق ما يحصل اليوم في الضفة الغربية المحتلة. هذه الشروط الصهيوأميركية وفي موازاتها شروط عربية وإسلامية وتتلخّص في عدم دفع أي مبالغ مالية في ملف إعادة الإعمار من دون حلّ سياسي يقود إلى دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، ربما هناك دول عربية كقطر والكويت وغيرها ستقدّم مبالغ مالية لإعادة الإعمار من دون شروط، أقول ربما لكن من دون حلّ سياسي يؤسس لاستقرار أمني مستدام ولو لعقد مقبل من السنين تبقى محلّ شكّ.
وعليه فإنّ ملف إعادة الإعمار لا تتعلّق بإنشاء مكاتب واختيار موظفين ذوي كفاءة، رغم أهميته كعمل تنفيذي وتخطيطي وتنسيقي، لكن الأمر يتعلّق قبل كلّ شيء بالإرادة السياسية للقيادات الصهيونية الإسرائيلية والأميركية، وكذلك الإبراهيمية، التي تتوافق وتطلّعاتها مع أهداف الصهاينة إن كان ضمنياً أو معلناً، فقد أعلنت إحدى الدول العربية الهامة أن عودة السلطة ونشر قوات دولية في قطاع غزة هو الطريق لإنهاء الحرب وبالتالي إعادة الإعمار، وعليه لن تستطيع الأمم المتحدة والمنسّقة العليا لأنشطتها سيغرد كاغ تجاوز تلك العقبات، وربما تنتهي مهمتها في نهاية هذا العام والحرب ما زالت مشتعلة، وإن حصل غير ذلك سيكون من المعجزات.
لكنّ المستحيلات يمكن تجاوزها إذا تحقّقت توافقات فلسطينية، فلسطينية ، يسعى إليها جميع أنصار فلسطين وعدالة قضيتها عبر العالم، أهمها التوافق بين الفصائل الفلسطينية، وأبرزها فتح وحماس على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، من خلال إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كبيت معنوي وعنوان فلسطيني جامع لكلّ الاتجاهات السياسية، بما في ذلك التباين والاختلاف في تكتيكات واستراتيجيات الوصول إلى النصر على الصهيونية، وكذلك الاتفاق على تشكيل حكومة وفاق وطني مرحلية (إلى حين إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية عامة) لقيادة عملية إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات، وكذلك مواجهة المشاريع الاستيطانية والتهويدية والتطهير العرقي، في الضفة الغربية والقدس.
الأمم المتحدة بمنظماتها وأجهزتها المختلفة وقفت إلى جانب القانون الدولي العام والإنساني وحقوق الإنسان وأدانت الانتهاكات والجرائم الصهيونية، مما جعل بعض رؤسائها ممنوعين من الدخول إلى كل أراضي فلسطين المحتلة، و"دولة" الاحتلال، حيث رفضت الحكومة الإسرائيلية منح شخصيات بعينها تأشيرات الدخول، وصنّفت "الأونروا" كمنظّمة إرهابية واتهمت أنطونيو غوتيريتش كمعادٍ للسامية، وكذلك فعلت مع فيليب لازاريني، وفرانشيسكا الابانيز. وحدها سيغرد كاغ ما زالت تستطيع الذهاب والإياب إلى قطاع غزة والقدس و"تل أبيب" محاولة السير على حبل رفيع في العلاقة مع سلطات الاحتلال، من دون ضجيج واستعراض إعلامي يحبط مهمتها باتخاذ سلطات الاحتلال قراراً بمنعها من تنفيذ مهامها، كآخر مسؤول أممي أعلى مكلّف بملف المساعدات وإعادة الإعمار في قطاع غزة.
إن محاولة الإبقاء على هذا الحبل الرفيع قد يراه البعض غير كافٍ، ولكن الدبلوماسية الأممية حيادية رغم العاطفة تجاه المظلومين الخاضعين للاحتلال.
المهمة الأممية تبدو صعبة التحقيق بل مستحيلة، والأمم المتحدة تبدو ظاهرياً وقانونياً ذات شخصية معنوية مستقلة، لكنها في النتيجة محصّلة إرادات الدول الأعضاء فيها، خاصة أعضاء مجلس الأمن الدائمين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لذلك ليس الدبلوماسي ومهارته وقيمته وكفاءته ما سيحسم الأمور بل مجموعة عوامل فلسطينية وعربية وأوروبية، وقبل كل شيء إسرائيلية وأميركية، إلى حين وقف الحرب الإجرامية ستبقى الأسئلة مشرّعة حول اليوم التالي.
وتبقى مهمة كاغ الممكنة في الوقت الحاضر هي إدخال المساعدات ورفع المعاناة، حيث نجحت في بعض الأحيان وفشلت في أحيان أخرى، ولكن ما فعلته ليس كافياً كما ذكرت في تقريرها لمجلس الأمن، لكن ما كتبناها هو بعض الصعاب والعقبات التي ما زالت تشكّل قنابل موقوتة تجعل اليوم التالي يشبه حرب إبادة وتطهيراً عرقياً من دون ضجيج الحرب ولكن بويلات جديدة قديمة مستمرة من دون أفق واضح.