الشأن الاقتصادي في ميزان الانتخابات الأميركية المقبلة
2024-07-14
ابراهيم علوش
تقول استطلاعات الرأي إن المسائل الاقتصادية تتبوأ مراتب أعلى في سلم اهتمامات الناخب العادي في الولايات المتحدة الأميركية في الانتخابات المقبلة في 5 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
ويقدر أحد استطلاعات الرأي أن 40% من الناخبين الأميركيين يفكرون بتلك الطريقة، الأمر الذي يجعل ملف الاقتصاد وقضاياه الملف الأهم نسبياً من أي شأن آخر في ترجيح موازين القوى انتخابياً مقارنةً بملفات وازنة أخرى مثل ملف الهجرة المشروعة وغير المشروعة لدى الناخبين الجمهوريين وملف الإجهاض لدى الناخبين الديمقراطيين.
كثيراً ما ينظر ذلك الناخب العادي إذاً إلى المسائل غير الاقتصادية، مثل دعم نظام زيلينسكي في أوكرانيا أو الانخراط في أحلاف أو حروب خارجية من زاوية أثرها المالي المباشر فيه فحسب.
تسهم تلك الرؤية الفردية قصيرة المدى، ومشاعر الرضا أو الامتعاض الناتجة منها، لدى الناخبين الذين لا تشغل بالهم كثيراً موازين الدين والدولة والمواطن والهوية الحضارية والعرق وحقوق المرأة والانفتاح على العالم ولا تحتل أولوية حاسمة في اهتماماتهم، في ترجيح وزن هذا المعسكر أو ذاك انتخابياً عبر خطوط التصدع التي تزداد تباعداً في المجتمع الأميركي حول تلك المسائل غير الاقتصادية بالذات.
وربما يناسب مثل ذلك التمييز التعسفي من يرون الاقتصاد من زاوية تغير سعر كيلوغرام من البطاطا مثلاً أو الدجاج بين أسبوعٍ وآخر فحسب، أي بصورةٍ سطحية، لكنْ، لا فصل واقعياً بين ما هو اقتصادي وغير اقتصادي إذا تناولنا الأمور من زاوية تاريخية أو زاوية علم الاقتصاد السياسي.
على سبيل المثال، يمثل الموقف من العولمة قضية خلافية كبرى في المجتمع الأميركي (والأوروبي)، وينعكس ذلك على صورة عداءٍ للمهاجرين وثقافاتهم، وللسلعة المستوردة، وعلى صورة تقوقعٍ واستعلاءٍ قومي وعرقي وكراهيةٍ للأجانب، ورفضٍ للقيم الليبرالية الكوسموبوليتية التي تحملها العولمة، والتي تسخف الهويات القومية والدينية والحضارية إلا إذا كانت تتعلق بأقليات حقيقية أو مفتعلة (مثل "المتحولين جنسياً").
لكنّ القاطرة التي ذكت كل تلك المشاعر، المشتتة والكامنة سابقاً، وعبأتها ونظمتها تحت لواء تيارات سياسية كبرى دفعت باليمين الشعبوي إلى الواجهة من خارج إطار المنظومة التقليدية وعلى حسابها هي خوف العامل الغربي غير الماهر من اليد العاملة الأجنبية والمهاجرة الرخيصة والمنافسة، وخوف أصحاب الأعمال الغربيين، ولا سيما أصحاب المشروعات الصغيرة، من السلعة أو الخدمة الأجنبية المنافسة.
وقد تأجّجت تلك "المشاعر" لأن برنامج العولمة ذاته اقتضى، فيما اقتضاه، تقليص دور الدولة في الاقتصاد، والشروع في تفكيك مظلة الحماية الاجتماعية التي كانت الدولة الغربية تؤمنها لمواطنيها، وإزالة إجراءات حماية المنتج المحلي لمصلحة الشركات الدولية العابرة للحدود، فعزز ذلك كله مصداقية اليمين الشعبوي في التعامل مع "الدولة المركزية" في الغرب، كأداة مشبوهة لتمرير أجندات خارجية معولمة بات من آثارها الملموسة ترك المواطن والشركة المحلية مكشوفين لعوامل النحت والتعرية في العراء.
وربما ظلت تلك النزعة أقل حدةً وحضوراً على المسرح السياسي لو كان الغرب في حالة صعود، لا أفول، ولو لم تنشأ قوى دولية كبرى منافسة، أبرزها اقتصادياً الصين طبعاً، ولو أسفرت العولمة عن زيادة هيمنة الغرب ودوله وشركاته على العالم، بدلاً من العكس، ولو ظلت الدول الغربية مستعدة وقادرة على توزيع الفتات لمواطنيها كما كانت تفعل عندما كانت تمثل رأسماليات قومية ذات أذرع خارجية، كما فعلت عبر معظم القرن العشرين، لا رأسماليات معولمة ذات أذرع محلية، كما أصبحت اليوم.
ثمة أزمة في منظومة العولمة إذاً، تجلت أكثر ما تجلت في الأزمة المالية الدولية عام 2008 ومضاعفاتها.
وثمة أزمة في أداء الاقتصادات الغربية في حلبة العولمة، ثانياً، تجلت أكثر ما تجلت في العجز التجاري الغربي الفاحش مع الصين، الأمر الذي فاقم أزمة ديونها العامة، وراح يقلل من الحجم النسبي لكتلة الاقتصادات الغربية في الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وثمة أزمة، ثالثاً، في مصداقية الدول الغربية التي سارعت إلى التخلي عن مقاييس العولمة التي حاولت فرضها على العالم من قبلُ، عندما فرضت العقوبات، وقيدت التجارة الخارجية والاستثمار، وجمدت أو صادرت رؤوس الأموال الخاصة بطرفة عين، كما تجلى ذلك، أكثر ما تجلى، في الحرب الاقتصادية على روسيا.
لمحة عن الفروق بين برنامجي ترامب وبايدن الانتخابيين في ميدان الاقتصاد
من دون هذه الخلفية، يصعب فهم الفروق بين البرنامجين الاقتصاديين لترامب أو بايدن (أو من قد يحل محله) من جهةٍ أخرى، وخصوصاً بعدما عاد معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى مستويات تتراوح بين 3 و3.5% في الأشهر الفائتة، بعدما انفلت من عقاله بين صيفي عام 21 وعام 23.
وكان معدل التضخم أدنى في عهد ترامب منه في عهد بايدن. ومن البديهي أن ارتفاع معدل التضخم ينال من القوة الشرائية للمواطنين، وخصوصاً مع ارتفاع أسعار الغذاء وحوامل الطاقة، وينعكس سلباً بالتالي على رضاهم انتخابياً عن حالة الاقتصاد.
لكنّ السيطرة على معدل التضخم في ظل إدارة بايدن اقتضت رفع معدلات الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ الأزمة المالية الدولية عام 2008، والتي تطلب الخروج منها خفض معدل الفائدة إلى الصفر من أجل تنشيط الاقتصاد.
لذلك، من الطبيعي أن يؤدي رفع معدل الفائدة الأساس من طرف الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى 5.5% في العامين الأخيرين إلى تباطؤ معدل نمو الاقتصاد الأميركي، والذي بالكاد زاد على 1% سنوياً في النصف الأول من العام الجاري.
وتبقى تلك تقلبات دورية ضمن حدود عادية نسبياً، ويبقى الأهم منها الخلاف بشأن وجهة السياسات الاقتصادية بين ترامب وبايدن، وأبرزها الآتي:
1 – السياسة الضريبية، إذ إن ترامب خفض الضرائب على الدخل الفردي، وخفض الضرائب على أرباح الشركات من 35% إلى 21%، ومرر إعفاءات ضريبية كثيرة على الثروة والعقارات. ويعد ترامب بمزيد من التخفيضات الضريبية إذا عاد إلى البيت الأبيض، في حين يعد بايدن برفع الضريبة على أرباح الشركات، إذا بقي في الحكم، إلى 28%، وبزيادة المعدلات الضريبية على الأثرياء. أما الإعفاءات الضريبية التي مررها بايدن، فكانت لصناعة السيارات الكهربائية والتحسينات المنزلية الموجهة نحو استخدام طاقة نظيفة بيئياً.
ويريد بايدن زيادة الإنفاق العام لتحريك الاقتصاد، في حين يرى ترامب أن تفعيل الاستثمار يتطلب خفض الضرائب. في الحالتين، من المتوقع أن تتفاقم أزمة الدين العام الأميركي بعدما وصلت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 123% عام 2024. ومن المتوقع أن تصل إلى أكثر من 133% عام 2029.
2 – التجارة الخارجية التي يتبنى ترامب فيها موقفاً انعزالياً تجلى بانسحابه من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والتي هندسها سلفه باراك أوباما مع 12 دولة لترسيخ مكانة الولايات المتحدة في آسيا في سياق منافسة روسيا والصين، في حين سعى الرئيس بايدن إلى إعادة إحياء الاتفاقية تحت عنوان "إطار الشراكة في الهادئ-الهندي من أجل تحقيق الازدهار"، بالاشتراك مع 14 دولة منذ عام 2022.
كذلك، أعاد ترامب صياغة "اتفاقية التجارة الحرة الأميركية الشمالية" (نافتا) مع كندا والمكسيك، بشروط يعدها أفضل للمصالح الأميركية، لتصبح "اتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا". اللافت أن من أهم تلك الشروط المفروضة على المكسيك هي السماح للعمال المكسيكيين بتشكيل نقابات مستقلة وممارسة حق الإضراب لتحسين أجورهم وشروط عملهم. والفكرة هنا أن ذلك سيجعل الانتقال إلى المكسيك أقل إغراءً للشركات الأميركية، وسيجعل الولايات المتحدة أقل جاذبيةً للمكسيكيين، ويخفف الهجرة إليها بالتالي من المكسيك.
أما الصين، فبدأ ترامب حرباً اقتصادية عليها فرض في خضمها تعريفاتٍ جمركيةً وقيوداً أخرى على مجموعات متزايدة من السلع الصينية المستوردة إلى الولايات المتحدة، كما هو معروف. وتابعت إدارة بايدن تلك الحرب بلا هوادة، بالمناسبة، فلم تكتفِ بتثبيت تلك القيود والجمارك، بل فرضت المزيد منها، وانضم إليها الاتحاد الأوروبي عام 2023 في فرض قيود على تصدير تكنولوجيا إنتاج رقائق حاسوبية متقدمة إلى الصين، كما فرض الاتحاد الأوروبي ضرائب تصل إلى 38% على السيارات الكهربائية الصينية، فوق الـ10% المفروضة عليها الآن.
وفي ما بدا كمنافسة انتخابية مع ترامب، ضاعف بايدن في أيار/مايو الفائت التعريفات الجمركية الأميركية على الخلايا الشمسية المستوردة من الصين، وزاد الجمارك بمقدار 3 أضعاف على بطاريات السيارات الكهربائية الآتية منها، ورفع التعرفة الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية أربعة أضعاف من 25 إلى 100%، وعلى الفولاذ والألومنيوم والمعدات الطبية الصينية بمقادير مختلفة.
يكمن الفرق بين توجه بايدن وترامب هنا في أن الأخير يتبنى سياسة حمائية عموماً حتى إزاء حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. ويريد ترامب فرض رسوم جمركية بقيمة 10% على كل المستوردات، بغض النظر عن مصدرها، و60% كحد أدنى على المستوردات الصينية، ما يمثل ارتداداً عن قيم العولمة ومقاييسها، في حين يتبع بايدن والتيار الذي يمثله خط النخب الغربية عموماً في تطويع السياسات الاقتصادية لحسابات الاستراتيجية العليا في مواجهة أعداء الولايات المتحدة ومنافسيها، مع الاستمرار في تمرير المقاييس المزدوجة حيث تقتضي مصلحة النخب المعولمة.
3 - المساعدات الخارجية التي ينفر منها ترامب وتياره، لأنهم يتبنون رؤية متمحورة حول أولوية الذات القومية والعرقية، والاستعلاء على العالم الخارجي والانعزال عنه، في حين تعدها النخب التقليدية في الغرب إحدى أهم أدوات بسط هيمنتها عالمياً.
يدور الصراع اليوم في الولايات المتحدة تحت هذا الباب بشأن عشرات مليارات الدولارات الموجهة إلى نظام زيلينسكي في أوكرانيا، والتي تدعمها النخب التقليدية في أميركا الشمالية وأوروبا. وقد أقر الكونغرس في 22/4/2024، بعد أشهرٍ من الجدال، حزمة دعم كبيرة بقيمة 95 مليار دولار، سيوجه نحو 61 مليار دولار منها إلى أوكرانيا، و8.1 مليارات لدعم تايوان ومحيطها الإقليمي، وأكثر من 26 مليار دولار لدعم الكيان الصهيوني ومحيطه، منها 2.4 مليار للعمليات العسكرية الأميركية المساندة له في المنطقة، و15 ملياراً للكيان الصهيوني مباشرة، و9 مليارات لترتيب الأوضاع الإقليمية تحت عنوان "مساعدات غزة".
لم يكن إقرار مثل هذه الحزمة من المساعدات في مجلسي النواب والشيوخ ممكناً لولا دعم قسم من الجمهوريين لها، ولا ننسى أن الحزب الجمهوري هو حزب نخبة إمبريالية تقليدية يحتوي اليمين الشعبوي ويجيره.
أما اليمين الشعبوي ذاته، وترامب أبرز ممثليه حالياً، فيصر على أن حلفاء الولايات المتحدة يجب أن يدفعوا أكثر بكثير لدعم أوكرانيا وتايوان، وإلا فلتذهبا إلى الجحيم. ومن البديهي أن هذا الخط أشبه بالموسيقى في آذان الرئيسين بوتين وجين بينغ، وأن هذا وحده كافٍ لجعل ترامب مرشحاً مفضلاً بالنسبة إليهما، بغض النظر عن أي موقف آخر، مع العلم أن التوجه الانعزالي يعني إيجاد صيغ تفاهم مع روسيا والصين في الملفات الإقليمية، بعيداً من ملف المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية الذي يستهدف الصين بالذات.
ملف دعم الكيان الصهيوني حالة خاصة
لا ينطبق الكلام ذاته على الكيان الصهيوني طبعاً الذي يُعَد اليمين الشعبوي، ولا سيما جناحه المسيحي المتصهين، أكثر تحمساً له حتى من النخب الإمبريالية التقليدية، فالمسألة هنا تصبح مسألة أيديولوجيا، لا مسألة استراتيجية إمبريالية عليا فحسب.
لا بد من التوقف لحظة هنا للإشارة إلى الآتي، رغم تمرير حزمة المساعدات الكبيرة، بقيمة 95 مليار دولار، في الكونغرس الأميركي:
أ - أن حزمة دعم "إسرائيل" بالذات مرت بأغلبية 366 عضو كونغرس، ومعارضة 58، وامتناع أو تغيب 11 نائباً، وأن تلك نسبة تأييد أقل من المعهود بكثير. على سبيل المثال، أقرت حزمة دعم القبة الحديدية عام 2021 في الكونغرس بأغلبية 420 نائباً إلى 9 نواب معارضين.
ب – أن معارضي حزمة دعم "إسرائيل" الـ 58 جاء 37 نائباً منهم من الحزب الديمقراطي، و21 من الحزب الجمهوري، وصفتهم بعض المواقع اليهودية الأميركية بأنهم يمثلون جناح "اليسار المتطرف" في الديمقراطي، وجناح "اليمين المتطرف" في الجمهوري.
جـ - أن بعض نواب الجمهوريين على اليمين، الذين يزايد حزبهم على إدارة بايدن في دعم الكيان الصهيوني، تساهلوا في ملف دعم أوكرانيا في مقابل زيادة دعم الكيان الصهيوني أو مقابل ربط الدعم بصفقات تسليح كبيرة مع الشركات الأميركية، وأن بعض نواب الديمقراطيين على اليسار تساهلوا في ملف دعم الكيان الصهيوني في مقابل إضافة مليارات لـ"دعم غزة" والمحيط الإقليمي، ليس من الواضح كيف ستنفق بالضبط...
د – أن إدارة بايدن ألقت بكل ثقلها خلف حزمة الدعم للكيان الصهيوني على الرغم من مشاكسات حكومة نتنياهو، لأن تلك مسألة استراتيجية إمبريالية عليا.
يذكر أن ترامب هو الذي ارتد عن ملف التفاهم النووي مع إيران، وأعاد فرض العقوبات النفطية والمصرفية عليها.
4 – ملفات اقتصادية أخرى، ومن أهمها ملف القروض الطلابية، وملف التأمين الصحي، وملف الاقتصاد الأخضر (محاربة الوقود الأحفوري، من وجهة نظر شركات الطاقة).
ويجنح بايدن وتياره إلى إلغاء مئات مليارات الدولارات المستحقة كقروض طلابية، مع العلم أنها بلغت 1.77 ترليون دولار بالمجموع، ألغى بايدن وهاريس أكثر من 140 ملياراً منها، وحاولا شطب 430 ملياراً (لأغراض انتخابية طبعاً)، لكن المحكمة العليا نقضت ذلك القرار. ويعد الجمهوريون ذلك سياسة مالية غير مسؤولة ستكلف الدولة كثيراً.
أما في ملف التأمين الصحي، فينحو ترامب والجمهوريون إلى نقض منظومة التأمين الصحي (العامة/ الخاصة) التي أسسها الرئيس الأسبق باراك أوباما، ويودون وضع قيود على الإنفاق الحكومي المنفلت من عقاله على الرعاية الصحية.
وفي ملف الطاقة الخضراء والوقود الأحفوري، سبقت الإشارة في مادةٍ أخرى إلى أن ترامب ينحاز إلى صف شركات الطاقة، في حين يسعى الحزب الديموقراطي إلى كسب أنصار البيئة إلى صفه، من دون أن يتبنى برامجهم تماماً. لذلك، ترى حزب الخضر يطرح مرشحاً في السباق الرئاسي كثيراً ما ينال من أصوات الديمقراطيين.