قيّضت لي المحبة أن أكون من بين الأدباء ضيوف معرض الكتاب الدولي في تونس. وهو، كما عرفته من قبل، تظاهرة ثقافية شديدة التنوع والتفاعل، جعلت هذا المعرض مقياساً لرؤية الأدراج الجديدة التي صعدتها الثقافة العربية والعالمية معاً، والأدراج السابقة التي غادرتها أيضاً.
ومن المصادفات المهمة ذات الأثر أنني التقيت الفيلسوف والسينمائي والشاعر الفرنسي آلان جونيون، الذي يُعَدّ في بلاده فرنسا الفيلسوف الذي يكمل تجربة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930-2004) ليس عبر شرح الفلسفات القديمة والحديثة وتأويلها فحسب، وإنما أيضاً عبر النظرات الدالة، والتي تلخّص أساليب الحياة التي يعيشها العالم، والمساعي التي يرومها، والطرائق والوسائل التي يستخدمها الإنسان لتحقيق طموحاته وأحلامه، وكذلك ما تنتهجه السياسات الفكرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية من سبل إلى الوصول إلى غاياتها.
آلان جونيون اسم كبير في عالم الأفكار في فرنسا وأوروبا، فهو أستاذ جامعي صاحب أثر، له مريدون وشرّاح للأفكار والمحاضرات التي يلقيها في الجامعة والأندية الثقافية، وينشرها في المجلات، وله عدة كتب تجول فيما يسمى "ثقافة العالم الراهن". صحيح أن كتاباته فكرية روحها فلسفية، لكن الصحيح هو أنها كتابة فيها للسياسة مساحات واسعة.
آلان جونيون ألّف كتاباً لافتاً للانتباه عنوانه "في عشق غزة"، شغل به طوال شهرين من السهر والتعب والجدل المعرفي والنظر والفكر، والكتاب (ترجمه صالح مصباح، وقدّم له يوسف الصدّيق) يدور بشأن الحدث المذهل الذي قام به الفدائيون الفلسطينيون، كما يسميهم، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين أعدوا، وخططوا ، وفكّروا، وتدرّبوا، وبادروا إلى اجتياح المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بغلاف قطاع غزة من الشمال والشرق فجراً، واغتنام ما استطاعوا اغتنامه، في حدث هو الأول من نوعه منذ نكبة الفلسطينيين في بلادهم عام 1948. ووصلوا إلى كل ما يحيط بقطاع غزة من تجمعات مدنية وعسكرية، وأسروا مدنيين وعسكريين (رتب بعضهم كبيرة جداً)، خلال وقت قصير مدته سبع ساعات، والجيش الإسرائيلي في ذهول وخدر وإماتة، واستخبارات الاحتلال الإسرائيلي في تخبّط وعماء، وساسة الكيان الإسرائيلي في حيرة لا تصدّق. ولأنّ الحدث كبير، وجديد، وحديث، وفيه نظام وتخطيط وروح جسورة، فإنّ آلان جونيون، يتلبّث عنده كثيراً، ويقارنه بأحداث حدثت في الجزائر أيام الانتداب الفرنسي على الجزائر، كما يقارنه بأحداث حدثت في فيتنام، وبعض البلاد الآسيوية والأفريقية. ويقول، ملخّصاً تلك الأحداث والتجارب، إنّ هذه بداية حقيقية لزلزلة الكيان الإسرائيلي من جذاميره، لا جذوره، لأنه أقيم ولا جذور له، وإنّ ساعة تفكيكه حانت لأنه ليس شيئاً أصيلاً من نسيج المنطقة. الأصيل هو من يقاوم 76 سنة ولا يستسلم لمستعمره، ولا يخاف أسلحته وجبروته، ولا يخضع لظلمه.
ويقول آلان جونيون في كتابه "في عشق غزة" إن ما حدث كان منتظراً من الفلسطينيين بشوق عارم، ومنتظراً من الإسرائيليين بخوف عميم، ولهذا كان الفعل قريباً من الأفعال الأسطورية، ويشبه المواجهة التي حدثت بين أوديسيوس (العقل) والسيكلوب صاحب العين الواحدة (القوة العمياء الوحشية)، وهي في مواجهة قوة آدمية قوامها الجسد والعقل. وإنّ خاتمة هذا الحدث تراجيدية، بعد أن قتل الوحش الإسرائيلي من قتل، ودمّر ما دمّر، وشلّ أسباب الحياة كي يقتل كل حي، بما في ذلك النبات والشجر، إلا أنّ هذه التراجيديا هي كتاب الفلسطينيين الطالع بما فيه من قول، وفعل، وفكر، وجسارة، وفضح لمساكنتهم وحشاً برياً منذ 76 عاماً حتى اليوم. كتاب التراجيديا الفلسطينية اليوم، بكل ما فيه من دماء، وأشلاء، ودمار، وتشريد، وجوع، ورجاء، هو الكتاب الذي دخل كل بيت، بما في ذلك البيت الأميركي الداعم الأول للباطل الإسرائيلي، وجوداً، ومقولات، وثقافة، وممارسة، والبيت الإسرائيلي أيضاً الذي ضربت عليه عزلة عمرها 76 عاماً من احتلال تشدق منذ ساعاته الأولى بأن الأمن هو هنا فوق التراب الفلسطيني المحتل، وأنّ كل ما يهم حياة الاسرائيليين وأحلامهم محروس بالقنابل النووية.
اليوم، كتاب الدم الفلسطيني، والأشلاء الفلسطينية، هو تراجيديا لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل تخص العالم كله، ولاسيما أهل القوة الذين جعلوا الاقتصاد والسياسة والمدارس والثقافات والتربية تتحدّث تمجيداً للقوة، واستعداداً للمواجهة في أي مكان من العالم، كأنّ أميركا والغرب أيضاً، لا مهمة لهما سوى تربية القوة، وأن لا حلم لهما سوى إخضاع العالم وربطه بما يريدون، وبما يفكّرون، وبما يخططون له.
تراجيديا الفلسطينيين المؤلمة جداً، هي كتاب العالم الذي يقرأ فيه المرء ما توصلت إليه فلسفة القوة من أطروحات ومقولات تسعى لتدجين العالم، كأنّ العالم لم يتّعظ بخلاصات التجارب التي أعقبت كل جرائم الاستعمار من جهة، والمناداة بالقوة من جهة أخرى، منذ حرب طروادة، وحروب الغرب الداخلية، وصولاً إلى فترات الاستعمار الشيطانية، والحربين العالميتين، وحروب أميركا الحديثة، وتوجهاتها ذات الأنفاس الكريهة التي تريد شراء الشعوب والأمم والدول واستخدامها كما تشاء... حتى هذه الساعة.
ويقول آلان جونيون بثقة: الآن حانت ساعة الحقيقة، وحان موعد شروق الشمس، وكفى الفلسطينيين ظلماً، وقتلاً، وتهجيراً، وتجاهلاً.
إنهم، ويعني الفلسطينيين، حين يواجهون المرآة البشرية يبدون، من دون أي غبش أو ضباب، أهل تاريخ وحضارة وعقيدة، وأهل كتب وآداب وفنون، وأهل عطاء، وأصحاب قيم تعبوا حتى جعلوا البحر جاراً لهم، وتعبوا حتى استنبتوا الأرض قمحاً وورداً، وكتبوا حتى صارت السماء سطوراً تقرأ، وشقوا الدروب حتى صار الاجتماع عادات وتقاليد ومواسم.
أما الآن، أما الزمن، فهما وقفة الفلسطينيين الجسورة في وجه الظلم الذي ظن أهله أنه أبدي، تماماً مثلما ظنّت مفاعيل قوة فرنسا أنّ الوجود الفرنسي في الجزائر أبدي، ومثلما ظنت بريطانيا أنّ وجودها في جنوب أفريقيا والهند ليس رحلة. اليوم كل العالم يتحدّث عن الزمن الفلسطيني وبفرح، لأنّ الأمر يشبه مشهد افتكاك الضحية نفسها من جلادها، ويؤشّر على أنّ زمن القوة الغاشمة العمياء ولّى.
كتاب آلان جونيون، ليس كتاب فلسفة يعرض نظريات القوة، وما ساندها من أفكار، وكتب، وممارسات، وصراخ سياسي، وإرهاب، وإنما هو كتاب يتتبع جذور الظلم الذي وقع على الفلسطينيين منذ 76 عاماً، والعربدة الإسرائيلية التي زلت من ثنائية (الثواب والعقاب) حدها الثاني (العقاب) مهما فعلت، ومهما دمّرت، ومهما اشتّطت في التوحّش الغاباتي. الفلسطينيون اليوم يقولون للإسرائيليين، وللأميركيين والغرب مجتمعين.. غزة، ليس غابة، وفلسطين، ليست غابة. ونحن لسنا أرانب! وإنّ زمن الغزاة والتوحّش ولّى، وها هو يولي ولا ثوب يغطّيه سوى ثوب الخزي والعار والندم.