لا يستطيع المتابع للحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، وللاعتداءات اليومية على الضفة الغربية، تجاهل تلك الصلابة الهائلة التي تبديها النساء الفلسطينيات في مواجهة آلة الحرب والبطش والتنكيل التي يستخدمها الاحتلال ضد أبناء الأرض، ولا تلك الشكيمة التي تبديها الأمهات والشقيقات والزوجات والبنات، سواء كنّ يودعنَ شهيداً، أو يعالجن جريحاً، أو يعبّرن عن شوقهنَّ لأسير خلف قضبان الظلم والظلام.
لن نعيد تكرار الكلام عن الدور الذي تؤديه الأم في تنشئة الأجيال. هذه باتت من النوافل، من دون إغفال حقّ الآباء ودورهم في هذا المجال، لكن حضور المرأة الفلسطينية الفعّال في النضال الفلسطيني يستوجب التنويه والإشادة والاحتفاء بها وبدورها الخلّاق.
ما نشاهده اليوم من صمود أسطوري لأبناء غزة، ومن حمل هائل يقع على كاهل النساء هناك، أعاد إلى ذاكرتي كلمات كتبتها قبل عشر سنوات احتفاءً واحتفالاً وتقديراً وعرفاناً للمرأة الفلسطينية، وهو ليس مجرد احتفاء عاطفيّ أو انفعاليّ، فرغم الحزن العميق الذي نعيشه على آلاف الشهداء من النسوة والأطفال الذين يستهدفهم المحتل عن سابق تصور وتصميم، فإن الاعتزاز بهاته النسوة وبدورهنَّ يضمرُ الكثير من الأبعاد والمعاني، أو لنقل إن لمشاركتهن الكثير منها؛ فمن الناحية المبدئية المحض، يمثل حضورهن في الشارع إلى جانب إخوانهن ورفاقهن نوعاً من شدّ الأزر والمساندة العملية والمعنوية على حد سواء، فالقضية الفلسطينية ليست قضية ذكوريّة، بل قضية وطنية تخصّ الإنسان الفلسطيني بمعزل عن جنسه ودينه ولونه وطبقته وانتمائه السياسي والأيديولوجي والمناطقي. لذا، تغدو مشاركة المرأة الفلسطينية في العمل الوطني والنضالي مسألة مفروغاً منها.
لقد ولى الزمن الذي كانت فيه النسوة يقرن في بيوتهن ويكتفين بالدعاء للمحاربين وانتظار عودتهم من الحرب سالمين، أو بالعمل في الخطوط الخلفية للجبهات كإداريات أو مسعفات أو عاملات اتصال؛ معظم جيوش العالم اليوم تجند النساء مقاتلات لا يقل شأنهن أبداً عن رفاقهن المقاتلين.
لعل الثورة الفلسطينية كانت من أوائل حركات التحرر الوطني التي أفسحت في المجال أمام انخراط المرأة في النضال والعمل الفدائي منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فالمرأة كانت حاضرة دائماً في الساح، وامتشقت السلاح أسوة بالرجال، وظلت على الدوام جزءاً لا يتجزأ من الحركة الفدائية.
من ينسى مثلاً المناضلة ليلى خالد بصورتها الشهيرة حاملةً بندقية كلاشينكوف مرتديةً الكوفية الفلسطينية، أو الشهيدة دلال المغربي التي قادت عملية فدائية إلى قلب فلسطين المحتلة، وخاضت معركة ضارية مع قوات الاحتلال، فضلاً عن آلاف الشهيدات والأسيرات على مَرّ النضال الفلسطيني ومُرّ الاحتلال الإسرائيلي.
ليلى ودلال وسواهما من فدائيات ما هنَّ إلا نماذج مشرِّفة للمرأة الفلسطينية والعربية عموماً، ومثلهن الملايين ممن لم تُسلَّط عليهن الأضواء أو لم ينلن حقهن من الحفاوة والتكريم.
المرأة الفلسطينية ليست طارئة على النضال؛ هي حاضرة منذ الرصاصة الأولى والحجر الأول. تضحياتها لا تعد ولا تحصى، وإن كانت لم تحظَ بما يتناسب مع تضحياتها من مشاركة في صناعة القرار.
الاحتفاء بالنساء الفلسطينيات في الداخل لا ينسينا الشابات الفلسطينيات المنتشرات في رياح الأرض الأربع، ومعظمهن ينتمي إلى جيل كان كثيرون يظنونه نسيَ أو تناسى قضيته لكونه وُلد أو نشأ وترعرع في ظل واقع فلسطيني وعربي لا يسرّ أحداً، فإذ به يخرج إلى الساحات والميادين بكل عزم وثبات، ويملأ الشوارع وأروقة الجامعات بالهتاف لفلسطين وحريتها، ويشرح لنظرائه من الطلاب والشباب حقيقة صراع مضى على نشوئه قرن من الزمان، ولم يبدأ مع طوفان الأقصى كما تحاول الدعاية الصهيونية أن تصوّر الأمر.
ولمن تخونه الذاكرة أو يُصاب بالنسيان، فإن شعار "طوفان الأقصى" لم يأتِ من فراغ، بل كإشارةٍ إلى ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس. ولا بأس من التذكير بأحداث حي الشيخ جراح والهبّة العارمة التي رافقتها، إذ سطعت مشاركة الفتيات في تلك الهبّة الشعبية المباركة بكوفياتهن التي زادتهن سحراً واحتراماً، وبعزيمتهنَّ ورباطة جأشهنَّ وابتساماتهنَّ الباعثة على الأمل بأن فلسطين لن تكون لغير أهلها مهما دارت الأيام وجارت.
نحتفي ونعتز بدور السيدات والفتيات الفلسطينيات اللافت والمميز في كفاح شعبهن، لا من باب المفاضلة أو المبارزة بينهن وبين الرجال والفتيان، وهؤلاء لا يحتاجون شهادة أحد في كفاحهم لأجل الحرية، بل من باب التكامل بين الجنسين؛ تكامل يضع القضية في إطارها الصحيح بوصفها قضية وطنية جامعة، بل قضية إنسانية تخص كل أحرار العالم، أنّى كانوا وأياً كانت معتقداتهم ودياناتهم.
هذه المشاركة الأنثوية الفعّالة تعيد الاعتبار أيضاً إلى مقولة أن تحرير الأرض لا يتحقق بلا تحرير الإنسان، وتحرير الإنسان لا يتحقق بلا تحرير المرأة، وتحرير المرأة يعني إعطاءها حقوقها المشروعة، وأولها أن تكون شريكة فعلية في صنع القرار، مثلما يعني رفع منسوب الوعي والمعرفة للوصول إلى مرحلة متقدمة يتحقق فيها التكامل بين الحقوق والواجبات لكلا الجنسين، فلا يجوز أن نصفق لانخراط المرأة في النضال والكفاح والقضايا العامة، ثم نهدر حقوقها بمجرد عودتها إلى البيت.
تحية لكل امرأة مناضلة، سواء اختارت النضال في تربية الأسرة أو في تحرير الأرض والإنسان، وتحية للمرأة الفلسطينية التي لم تتوانَ يوماً عن تقديم الغالي والنفيس في سبيل الحرية والاستقلال، وهي تستحق كل ما يليق بها وبكفاحها النبيل.