أثار الرد الإيراني على إسرائيل، بقصفها القنصلية الإيرانية في دمشق، ردود فعل متباينة، بقي كثير منها عند حدود الحدث، دون التوغل في قراءة أبعاده، ورصد ردود الفعل عليه، وبشكل خاص، رد الفعل الأميركي، الذي يعتبر نفسه المعني دون غيره، بالإشراف على منطقتنا، وضبط الحدث فيها حتى لا تخرج عن سيطرته، على غرار ما حدث في 7 أكتوبر الماضي مع معركة «طوفان الأقصى».
كثيرون، للأسف، من المعلقين وكتاب الأعمدة، عرباً وبمن فيهم فلسطينيون، سخروا من الرد الإيراني، ووصفوه وكأنه ألعاب نارية، أطلقتها طهران في سماء المنطقة، لتدّعي أنها دافعت عن سيادتها وكرامتها، وتكمن خلفية هذه المواقف في موقف مبدئي يتخذه هؤلاء من إيران، وهم على إستعداد لمواصلة هذا الأسلوب في التشويه، حتى ولو كانت طهران تخوض حرباً مع إسرائيل.
بالمقابل، لفت نظري مقال للدكتور حسن نافعة، المعروف للقاصي والداني، الذي قال فيه: إن الرد الإيراني كشف عن واقع الحالة العربية، وقال أنها أثبتت إنقسامها إلى ثلاثة تيارات: الأول؛ التحالف العربي – الإسرائيلي، وهو الذي تدخل للدفاع عن إسرائيل أمام الرد الإيراني، بعضها بالتصدي مباشرة للمقذوفات الإيرانية، وبعضها الآخر بتقديم المعلومات الإستخباراتية. الثاني؛ هو محور المقاومة المتحالف مع إيران، والذي يتحمل مسؤوليته في الرد على إسرائيل من موقع تبني القضية الفلسطينية. أما الثالث؛ فهو المحايد، وإن كانت مشاعر بعضه تميل إلى الولايات المتحدة، بسبب موقعها المهيمن على المنطقة.
ومع إنحيازي إلى التحليل الصائب والشجاع، الذي توصل إليه الدكتور حسن نافعة، وهو المعروف بعمق تفكيره ورصانته، فإنني سأضيف أن ما لفت نظري في جولة وزير خارجية الولايات المتحدة في المنطقة، وأثناء حديثه في «منتدى الرياض الإقتصادي»، دعا فيه إلى ما أسماه «العمل على التكامل الدفاعي في المنطقة»، وقد مرت هذه العبارة مرور الكرام، ولا أعتقد أنها أثارت إنتباه العدد الكافي من المراقبين أو المحللين.
التكامل السياسي للإقليم
وردت عبارة «التكامل الهيكلي للإقليم» أو «إستكمال هيكلية الإقليم» أول ما وردت، حسب تقديري، في إعلان القدس، الذي وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس حكومة إسرائيل (آنذاك) يائير لابيد في 15/7/2021، في زيارة بايدن لإسرائيل، وشكل «إعلان القدس» كما ورد فيه تجديداً للعلاقة الإستراتيجية الثابتة بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وهو إتفاق بين بلدين وليس بين رجلين، ملزم للبلدين معاً، بغض النظر عن تغير الأفراد.
أكد الجانبان أهمية أن تعمل الولايات المتحدة على إستكمال هيكلة إقليم الشرق الأوسط، مؤكدة في هذا الإعلان، وفي تصريحات لاحقة، أنه بدون دمج إسرائيل في المنطقة سيبقى هيكل الإقليم منقوصاً.
وفي هذا السياق، فإن الولايات المتحدة تعتبر أن دمج إسرائيل في المنطقة هو ضمان لأمن دولة الاحتلال، وأمن المنطقة واستقرارها، ما يرسي الأمور على معادلة تعتبر إسرائيل حلفياً وشريكاً للدول العربية، في وجه الخطر الإيراني، كما تعتبرها الولايات المتحدة خطوة ضرورية، لتعزيز وجودها في المنطقة، وإغلاق الأبواب أمام النفوذ الروسي والصيني، فضلاً عن الإيراني.
ويمكن القول إن تعبير إستكمال هيكلة الإقليم، أو التكامل الهيكلي للإقليم، مرادف لعبارة «تعميم التطبيع العربي – الإسرائيلي» من بوابة العربية السعودية، للمرور بعدها إلى باقي العواصم العربية، والإمتداد نحو آسيا وإفريقيا، حيث تتوقع واشنطن أنه بعد أن تفتح العربية السعودية أبوابها للتطبيع مع إسرائيل، ستفتح من بعدها، بصورة آلية، بوابات العواصم العربية والإسلامية كافة، إلتزاماً من العربية السعودية، ودول الجامعة العربية. إن تطبيع علاقة العربية السعودية مع إسرائيل، سيقود إلى التطبيع مع دولة عربية وإسلامية.
التكامل الدفاعي في الإقليم
وردت هذه العبارة، كما أسلفنا على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في محاضرته أمام «المنتدى الاقتصادي في الرياض»، في نيسان (إبريل) الماضي، وبالتالي فإن الفارق الزمني بين العبارتين (التكامل الهيكلي والتكامل الدفاعي) 3 سنوات تقريباً، شهدت خلالها المنطقة حدثين، ما زالت تداعياتهما تتوالى تباعاً، على الصعيد الإقليمي، وفي بعض جوانبها على الصعيد الدولي.
• الحدث الأول هو معركة «طوفان الأقصى» في 7/10/2023، إهتزت لها أركان الولايات المتحدة، أكثر مما إهتزت لها أركان دولة الاحتلال، إذ أدركت واشنطن سريعاً، أن إسرائيل عاجزة عن حماية نفسها عسكرياً وأمنياً، وأن بإمكان بضعة عشرات من الفدائيين، وتسليح بسيط، أن يخترقوا حدودها، وأن يقيموا في مستوطناتها، وأن يسوقوا جنودها وضباطها أسرى إلى داخل القطاع، وأن هذا الأمر لو تكرر مرة ثانية أو ثالثة، ستقف الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) أمام مشهد جيوإستراتيجي جديد، تنهار معه كل الحسابات الأميركية، بما يتعلق بمصالحها في المنطقة، وإمتداداً نحو شمال إفريقيا ودول الساحل الإفريقي، وامتداداً نحو شرق آسيا، دون أن تتجاهل ما يمكن أن تتعرض له قارة أوروبا الغربية من إهتزازات، لذلك أسرعت الولايات المتحدة إلى التدخل، كما تابعنا، وما زالت حتى الآن، تعتبر نفسها ولي الأمر والآمر الناهي في إدارة حرب إسرائيل في قطاع غزة، لإدراكها مدى إنعكاس نتائج هذه الحرب على المصالح الأميركية في المنطقة، فضلاً عن مستقبل إسرائيل نفسها.
• الحدث الثاني ما شهدته المنطقة يوم 13 نيسان 2024، حين قامت الجمهورية الإسلامية في إيران، بالرد على الاعتداء الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق، بضربة جوية، استعملت فيها حوالي 300 صاروخ وطائرة مسيرة.
جاء الرد الإيراني بعد طول جدل، حول إمكانية هذا الرد، وعلى ما يمكن أن يسفر عنه من نتائج، في جوهرها، أن الرد الإيراني سيكون إعلاناً بسقوط منظومة الردع الإسرائيلية، ومغادرة إيران «إستراتيجية الصبر الطويل»، لصالح إستراتيجية الضربة مقابل الضربة، ما يفتح الباب، في لحظة ما، أمام حرب إقليمية، غير منتظرة، في ظل حركة إسرائيلية، أثبتت مرة أخرى أنها عاجزة، بمفردها، عن الدفاع عن نفسها، وأنه لولا التدخل الأميركي والبريطاني والفرنسي والإيطالي، وبعض الدول العربية، لكانت نتائج الضربة الإيرانية أوسع وأكبر، ما يسهم، أكثر فأكثر في تهشيم صورة إسرائيل كأقوى قوة عسكرية في المنطقة، وكصاحبة جيش لا يهزم ولا يقهر، وكصاحبة إستراتيجية تقوم على الردع، وعلى نقل الحرب إلى أرض العدو، مع إيران، سقطت معادلة الردع، كما سقطت معادلة نقل الحرب إلى أرض العدو.
وبذلك أدركت الولايات المتحدة، أن تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، على أهميته القصوى، وخاصة بعد «طوفان الأقصى» و«الوعد الصادق»، لم يعد يستجيب للإستحقاقات المستجدة، وأهمها: أمن إسرائيل، وهو ما يتطلب الربط الوثيق بين الإستكمال الهيكلي للإقليم، وبين إستكمال هيكله العسكري الأمني، وما كلمة «دفاعي» إلا لتغطية النوايا العدوانية للسياسة الأميركية في المنطقة.
التكامل العسكري والأمني، على مستوى الإقليم، لا يمكن ترجمته إلا بحلف عسكري، له مؤسساته وأدواته وخططه الموزعة على أعضائه، تلبيه للإستراتيجية الجيوسياسية التي من أجلها نشأ.
ووفق كل التقديرات، وخاصة بعد الحدثين الكبيرين 7/10 – 13/4 فإن إيران، وما تسميه الولايات المتحدة أتباعها في وصفها للمقاومة العربية في فلسطين وسوريا ولبنان، والعراق واليمن، باعتبارها هي الخطر الداهم على مصالح المنطقة، وفي القلب منها إسرائيل، ووظيفة الحلف العسكري هو ردع إيران واتباعها، بعدما سقطت منظومة الردع الإسرائيلية، وبعدما تبين عجز إسرائيل عن الدفاع عن نفسها منفردة.
وإقامة حلف عسكري في المنطقة (ناتو عربي - إسرائيلي – أميركي – أطلسي) لا يشكل مفاجأة سياسية، إلا لمن كان غائباً عن متابعة أوضاع المنطقة، أو من أصر على تجاهل تطورات المنطقة، مرتاحاً إلى بقائه على هامش الحدث.
ففي آسيا، تقيم الولايات المتحدة، أكثر من حلف عسكري منها أوكيوس وكوانت، والحلف الأميركي – الكوري – الياباني، فضلاً عن أن مصادر الناتو تتحدث عن ضرورة التوسع في بناء أحلاف تابعة في شمال إفريقيا، ودول الساحل، خاصة بعد خروج فرنسا من المنطقة، ودخول إسرائيل للقارة السمراء عبر قنصليتها في مدينة «العيون».
لذلك، لا غرابة أن يتم الكشف عن مشروع أميركي لإقامة قاعة عسكرية في صحراء النقب، خاصة بعد الضربة الإيرانية، وأن يتم الكشف عن أن الولايات المتحدة لبت 90% من حاجة العربية السعودية إلى السلاح، في إطار التأسيس للتطبيع مع إسرائيل، أو أن تعزز الولايات المتحدة وجودها في المنطقة، بحاملتي طائرات يرافقهما أسطولان كاملان من المدمرات والفرقاطات والطرادات وغيرها، وأن يتم الكشف عن قواعد عسكرية عند الحدود العراقية – السورية – الأردنية، كانت الدوائر المعنية متكتمة عليها (البرج 22).
استراتيجيتان
إذا كان الهدف الأبعد للحلف المنشود، هو درء الخطر الإيراني، كما تقول الدوائر الغربية، وبعض الدوائر العربية، فإن ثمة إستراتيجيتين تعتبر كل واحدة منها معنية بإنجاز هذا الهدف:
الأولى: الإستراتيجية الإسرائيلية تدعو إلى القضاء على الأخطبوط الإيراني، من خلال ضرب الرأس مباشرة (أي طهران)، ما يؤدي إلى شل الأطراف، وهو ما يعبر عنه نتنياهو في دعوته لحرب ضد إيران، بذريعة منعها من الوصول إلى القنبلة النووية.
الثانية: ما تعتقده الولايات المتحدة، عملاً بنصيحة كيسنجر، الذي يعتبر إيران أمة ذات حضارة عميقة، ودولة كبرى لها نفوذها السياسي والمعنوي والديني، وبالتالي يصعب القضاء عليها بالحرب، فيدعو إلى سياسة بديلة هي سياسة الإحتواء، والعمل في الوقت نفسه على شل أطرافها.
ما يعني في الحالتين، أن أهداف الحلف المنشود، هي أهداف عدوانية، تهدف ليس فقط إلى تعزيز النفوذ الأميركي – الإسرائيلي في المنطقة، بل وكذلك، وفي كلا الحالتين، فإذا كان الإدعاء بأن تشكيل الحلف المنشود، هو ضمان لأجل إستقرار الأمن في المنطقة، فإن خطوة التشكيل نفسها، فضلاً عن أي دور يقوم به الحلف، لن تؤدي سوى إلى مزيد من الاضطراب والحروب في المنطقة ■