بساتين عطرة.. كيف حضرت يافا في أدب الرحلة الروسي؟
2024-04-15
رغّبت الإدارة الروسية مواطنيها في القرن الــ 19 بالزحف إلى الديار المقدسة في الشرق، فكان عليها تنظيم تدفق آلاف الناس العاديين (نحو 12 ألف شخص سنوياً)، الذين لا يملك معظمهم في العادة قوت يومه، إلى بلادنا. إلا أن هذه العملية لم تنتظم إلا بعد حرب القرم بين روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية، وذلك عبر إنشاء "الجمعية الروسية للشحن والتجارة" سنة 1858، التي امتلكت آنذاك 17 سفينة خصصت للمسافرين إلى جانب سفن التجارة البحرية (كانت 10 منها قيد الإنشاء) في موانئ أوديسا. وبنتيجة ذلك، كانت طرابلس الشام المحطة الأولى لتلك السفن في سوريا، أما محطتها الأخير بعد بيروت فكانت في ميناء يافا.
بوابة القدس
قبل تلك النقلة النوعية في الوصول بحراً من أوديسا إلى يافا، كان على المسافرين أن يصلوا بطرق مختلفة إلى فلسطين. بطبيعة الحال كان بإمكانهم الانتقال براً أو بحراً إلى العاصمة العثمانية القسطنطينية (سميت "تساريغراد" في النصوص الروسية)، ثم ركوب إحدى السفن الأوروبية. وذلك يعني أن عدداً لا بأس به منهم وصل إلى يافا براً، ومنهم زوسيما شماس دير سرجيوس سنة 1422، والتاجر تريفون كوربينيكوف سنة 1583، أو عن طريق قبرص كالأمير رازدوفيل سيروتنيك سنة 1584، وكذلك عن طريق الاسكندرية كالحاج الكييفي فاسيل غريغوروفيتش بارسكي سنة 1729، أو الراهب نيكانور موسكفيتينوف سنة 1795... إلا أن مدينة يافا ترسخت في الوعي الشعبي الروسي كبوابة للقدس في النصف الثاني من القرن الــ 19، وتعزز ذلك بنقلة نوعية أخرى تمثلت بإنشاء خط السكك الحديدية العثمانية: يافا – القدس، وافتتاحه في 26 أيلول/سبتمبر 1892.
تلك كانت لحظة تاريخية مهمة، تعززت معها مكانة يافا في الوعي الروسي وجعلت من مينائها محطة شبه إلزامية، بحيث يغدو البوابة الشرعية للقدس. واستأهلت بطبيعة الحال التفاتات من الكتّاب والصحافيين والرحالة، الذين استهواهم أن يقيموا في المدينة بضعة أيام قبل الانتقال إلى المدينة المقدسة، فلم يعد انتقالهم رهناً بتوفر الحماية المطلوبة للقوافل عن طريق اللد والرملة والمخاوف من قطّاع الطرق.
بين هاتين النقلتين، وعندما كان إنشاء خط السكك الحديدية مجرد فكرة، نقف على نص للكاتب والشاعر الروسي نيقولاي فاسيفليفيتش بيرغ (1823-1884)، الذي عاش بضع سنوات في بلادنا وكان يراسل مجلة "سوفريمينيك" (المعاصر) بين عامي 1861 و1867، وقد حملت مقالاته عنواناً جامعاً وهو "من تجوالي حول العالم".
يستشرف بيرغ كيف سيكون الوضع بعد إنشاء خط السكك الحديدية: "كيف يمكنني تناول هذا الموضوع بشكل مهمّ ورسمي؟ عليّ أن أضيف جميع المشاعر والمشاهد، من العواصف وهجمات البدو ووقاحة الحراس الأتراك، سيختفي كل ذلك، سيكون التنقل في فلسطين سهلاً حيث لن يخيفك أحد بين يافا والقدس كما أخاف والدك... لكن في المقابل، لن تحظى بضيافة سخية في خيمة على الطريق تحت شجرة توت رائعة، ولن تحتسي من تلك القهوة الرائعة، حيث ينظر إليك مضيفك بكل ود ولطف، ولن تضحك بكل براءة... لكن طبعاً سيتدفق المزيد من الأوروبيين إلى فلسطين".
إلا أن بيرغ نفسه دوّن انطباعاته بعد رسوّ السفينة الروسية قرب ميناء يافا، يقول: "تتوفر لدينا اليوم ظروف جديدة، لم تكن متوفرة لدى آبائنا أثناء انتقالهم إلى الديار المقدسة. يمكننا أن نكون في مقصورة مريحة للغاية في باخرة روسية... أتعرفون بأي سهولة تسير الرحلات من أوديسا إلى يافا؟... نشاهد مبانيها المرصوفة على عرض التل أمامنا، هذا وصولي الخامس إليها بحراً، وإلا لكنت اعتقدت أنني أنظر إلى ضفة سيفاستوبل الجنوبية. الفارق الوحيد أن يافا تحظى بكمّ كبير من البساتين إلى يسارنا، وهي في الغالب بساتين ليمون وبرتقال. في يافا، كما هي الحال في الموانئ الشرقية، بمجرد أن ترسو السفينة البخارية، تتوجه نحوها عشرات القوارب الصغيرة من الشاطئ. البحارة ذوو البشرة الداكنة، حفاة في أسمال بالية، يجذفون بحركات سريعة وهم يصرخون. يتسلقون جدار السفينة بمهارة المحاربين ويمتلئ الفضاء بأصوات عربية ممزوجة بالروسية والفرنسية. يحدثون ضجيجاً كبيراً".
وعن تفادي اقتراب السفن من الميناء، يتحدث كذلك المؤرخ العسكري دمتري أنطونوفيتش سكالون، الذي رافق الأمير الأكبر (ابن القيصر) نيقولاي نيقولاييفيتش في رحلته سنة 1872، يقول: "يافا، أحد أقدم الموانئ في العالم، مبني على صخرة وسط سجادة خضراء من الحدائق. تمتد أمام المدينة سلسلة من الشعاب المرجانية التي تتحطم عليها الأمواج بصخب مصحوبة بزبد أبيض. عندما تكون الرياح قوية لا تستطيع السفن الرسو قرب الميناء، ولا يمكن للقوارب الصغيرة المرور بين الشعاب المرجانية، لذلك لا يمكن الوصول إلى الميناء إلا في الطقس الهادئ".
كذلك يتحدث عن بساتين المدينة، يقول: "بعد أمطار الأمس، استفادت من أشعة الشمس الدافئة. في الحقل كانت الطيور تغرد والقبّرات تغني... وبعد نحو ساعتين دخلت البساتين المحيطة بيافا، وعرضها نحو 4 أميال وتتكوّن من أشجار البرتقال والليمون والرمان والجوز والنخيل والموز. ومن بين هذه الفاكهة جرّبنا البرتقال الضخم والليمون الحلو الذي لم يكن حجمه أكبر من حجم حبة الجوز".
هنا فلسطين
في نهاية القرن الــ 19 زار فلسطين الكاتب المسرحي والناقد فالس ميخائيلوفيتش دوروشيفيتش (1865-1922)، ودوّن انطباعاته عن الزيارة بشاعرية، وضمّنها كتابه "الأرض الموعودة – فلسطين"، (1900)، يقول في الفصل الأول منه: "الجو الحار ذهبي من أشعة الشمس الغاربة، عابق برائحة بساتين البرتقال والليمون المزهرة. هذه البساتين العطرة تمتد على جانبي الطريق الذي أغادر فيه يافا إلى الرملة. يقترب المساء، تحيط بي الأشجار المزهرة، تغدو بيضاء وكأن الثلج منثور عليها، يتدفق عبير الزهور المسكر من خلف نبات الصبار الأخضر الداكن ذي الأمشاط الطويلة التي تزنّر البساتين.. إنها الأرض المقدسة. قبل ساعات قليلة نظرت إليها من بعيد من متن السفينة، متشوّقاً متحيّراً، ومحبطاً بعض الشيء. لم أرفع عيني عن الشريط الذهبي الضيق الذي يومض في الأفق".
ولعل أبرز من زار يافا في العقد الأول من القرن العشرين الكاتب إيفان ألكسييفيتش بونين (1870-1953)، الذي كتب عن فلسطين عدداً من القصص القصيرة ضمن مجموعته "ظلّ الطائر"، وتحدّث فيها عن يافا بنفحة شرقية.
وصل بونين في نيسان/أبريل 1907، يقول: "ألقينا المرساة في البحر قبالة يافا. فعَلَت ضجة على سطح السفينة. أتى رجال القوارب حفاة في سترات وسراويل مخططة، ذوو وجوه سمر تميل إلى اللون البني، يتصببون عرقاً ويعتمرون طرابيش على مؤخرات رؤوسهم. ويصرخون ويرمون في المراكب كل ما في متناول أيديهم. تتطاير الحقائب هناك مثل حبات البَرَد، ويتهاوى المسافرون نحو القوارب. أنا أسقط أيضاً. يمتلئ سطح السفينة بصراخ العرب والروس. بين السفينة والبر يمتد البحر كالمرآة. تبدو يافا صغيرة، فهي لا تزال بعيدة. الهواء نظيف للغاية. تظهر الخطوط الشرقية لبيوتها المكعبة، وتبرز بين بيت وآخر شجرة نخيل مثل باقة زهر، واضحة وبسيطة للغاية. تتكدس بيوت المدينة الحجرية المصفرّة على حواف جرف ساحلي شديد الانحدار. بيننا وبينها سلسلة طويلة من الشعاب المرجانية. وخلفها، قرب الشاطئ، تتألق كالحرير أشرعة متدلية على صواري القوارب الطويلة والرفيعة".
استمر توافد الروس إلى فلسطين عبر يافا حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى التي طوت هذه الصفحة من تاريخ المدينة ومينائها. شكّل نصف قرن من تدفق الرحالة والحجاج والمسافرين الروس إلى فلسطين صفحة ذهبية من أدب الرحلات الروسي، حيث يندر جداً أن نجد مدوّنة لا تتحدّث عن ميناء يافا وكيفية الوصول إلى الشاطئ، فيكتسي النص بشاعرية خاصة، كأن كاتبه يرسم بالكلمات الشوق والأمل وطول الانتظار وفرحة الوصول إلى الأرض المقدسة.