أسامة خليفة / باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
في كراس «طوفان الأقصى، وما بعده» العدد السابع والسبعون من سلسلة «كراسات ملف» الصادر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، موضوع يُقيِّم ما وصلت إليه الحالة الفلسطينية، وإلى أين تسير الأمور؟. وبعد معالجة الموضوع يتبين أن عنوان «من هنا، إلى أين؟» يواجه مصطلح «اليوم التالي..» من الناحية الموضوعية وطبيعة الأمور، إذ يربط الحاضر «من هنا» بالمستقبل «إلى أين؟»، يحدد مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية، بناء على الوقائع الموضوعية التي تجري أحداثها الآن، وفي الزمن الماضي من صراع طويل ومرير، وفقاً لما جرى ويجري على الأرض، وليس ما يجري في تفكير السياسيين أو الاستراتيجيين الغربيين، وما يجول في مخيلتهم من اختلاق محض من غير أصل ولا احتذاء لتصورات تبدو كأوهام.
منذ الدقيقة الأولى لشن إسرائيل حربها الدموية على قطاع غزة أـخذت الدوائر الغربية السياسية والبحثية في الحديث عما يسمى «اليوم التالي...»، الذي يفترض هزيمة المقاومة، وتسليمها لسلاحها، وسقوط خيار الصمود، وتركيع الشعب الفلسطيني، وتدمير إرادته الوطنية، وبادرت الولايات المتحدة انتقاد إسرائيل بأنها بدأت الحرب قبل أن تضع خطة لمستقبل غزة في«اليوم التالي»، وهذا كذب ونفاق سياسي يأتي ضمن سياسة توزيع الأدوار، أمريكا تعلم، أن لدى إسرائيل تصوّر لما ستؤول له الأمور في غزة بعد انتهاء الحرب، دل على ذلك تصريحات القادة الإسرائيليين الواضحة وضوح وقاحة الاستهتار بالقيم الإنسانية حول الإبادة والتهجير وإغراق غزة بالمستوطنات تمهيداً لضمها إلى مشروع إسرائيل الكبرى، كما دلت عليه استراتيجية العدوان على غزة ومجرياتها التي هجرت الملايين من الفلسطينيين من شمال ووسط غزة، وقتلت عشرات الآلاف، وأصابت وجرحت أضعافهم، وما زالت تهدد لاجئي جنوب القطاع في رفح بالقتل والتهجير.
كان الكل الإسرائيلي -قادة ومستوطنين- متفقين ومجمعين على مآلات هذه الحرب العدوانية، لحين بدأت تظهر المشكلات التي ستواجهها الولايات المتحدة وإسرائيل في الإقليم بسبب التصريحات العلنية والمكشوفة والوقحة عن «اليوم التالي..».
بعد مضي أكثر من أربع شهور على اندلاع الحرب الإسرائيلية الهمجية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، متزامنة مع التصعيد الاستثنائي بدمويته على شعبنا في الضفة الغربية (بما فيها القدس)، هذه الحرب -«المحرقة» لم تضع أوزارها بعد، ولم تصل بعد إلى ختام، والأرجح ألا تصل إليه خلال الفترة القصيرة القادمة، حتى لو تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، هي حرب متدحرجة فصولاً، لكل فصل منها سمات تحكم معادلاته، لكنها مجتمعة، تفتح – في المدى الأبعد - على ارتياد آفاق الحرية والاستقلال الوطني والعودة، في إطار تمكين شعبنا من ممارسة حقه في تقرير المصير بحرية على ترابه الوطني، وفي هذا السياق، علينا أن نأخذ بالحساب الاحتمالات المفتوحة لتطور الأحداث، كونها لم تصل بعد إلى ختام، فثمة من يقترح (غوتيرش) مرحلة انتقالية، تدار عربياً – دولياً، وقد تعددت المشاريع والسيناريوهات، يقترح رئيس الولايات المتحدة جو بايدن إدارة على الضفة والقطاع من قبل سلطة فلسطينية متجددة، أطلق دعوته هذه في 17/11/2023 لقيام «سلطة متجددة» على حد تعبيره، دون أن يفصَل معناها، الذي لا يمكن أن يعني سوى إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية، مؤسسات وأفراد، بما يوفر الشرط اللازم لإدامة صيغة الحكم الإداري الذاتي الذي يفي باستحقاقاته الاقتصادية والأمنية والسياسية نحو إسرائيل، بما في ذلك قمع الحركة الشعبية وشل قدرتها على الفعل والتأثير، وشطب المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة برمجة أنظمة التعليم، وكذلك إعادة صياغة الرواية الفلسطينية، وسن قانون جديد للإعلام يرسم سقفاً لحرية الرأي تحت حجة منع التحريض ضد الاحتلال، ويسلم بواقع «القدس الموحدة» عاصمة إسرائيل.
وقد تداولت الدوائر الغربية مشروعاً لإعادة الانتداب الاستعماري إلى غزة، بوظيفة محددة، هي استكمال ما لم يحققه العدوان، من تجريد الشعب ومقاومته من السلاح، وفرض أحكام عسكرية توفر شروط (الاستقرار الأمني)، وتحويل القطاع إلى جار «صديق لإسرائيل»، بما في ذلك الحديث عن نفي قادة المقاومة والحركة الوطنية إلى خارج فلسطين.
هذه محاولات تأتي في إطار "المساعي لسلب الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير وإقامة دولته الحرة المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة وعاصمتها القدس، وفقاً للقرارات الدولية.
تنطلق هذه الاقتراحات جميعها -الغربية والأمريكية والاسرائيلية لمستقبل غزة بعد انتهاء الحرب- من فرضية هزيمة المقاومة، ومن هنا عدم واقعيتها، وبالنتيجة فإن ما يقرر الحالة الفلسطينية أمران: نتائج الميدان + توحيد الصفوف، وحدة الصف، التي بدورها تستدعي: حوار وطني + التوحد على مكونات الكيانية الفلسطينية: وحدانية التمثيل + الدولة الحرة السيدة المستقلة وحق العودة، مسوَّرة بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
من الواضح أن هذه الأمور لن يقيَّض لها النجاح، طالما استمرت المقاومة بكل أشكالها في الضفة والقطاع، واستمر المدد من الشعب الفلسطيني في كل مكان، وإلى جانبه ومعه حركات التحرر الوطني في المنطقة، والحركات الشعبية عموماً في كل أنحاء العالم.
في موسكو يوم الجمعة 1 آذار/ مارس الحالي، وعقب اجتماع الفصائل الفلسطينية أكد البيان الصادر عنها، أن المستقبل تصنعه جماهير شعبنا المناضلة، وترسمه فصائل المقاومة، وفق ما جاء في نص البيان حيث أكدت الفصائل على استمرار المقاومة، ووحدة عمل الفصائل في انجاز المهمات الملحّة أمام الشعب الفلسطيني في التصدّي للعدوان الإسرائيلي الإجرامي وحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها قوات الاحتلال على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والعمل على فك الحصار الهمجي على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية، وإيصال المساعدات الإنسانية والحيوية والطبية من دون قيود أو شروط.
وأكد البيان على التمسك بوحدة الأراضي الفلسطينية وفق القانون الأساسي ورفض فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، بما فيها القدس، وإجبار قوات الاحتلال على الانسحاب من قطاع غزة ومنع محاولات تكريس احتلاله أو سيطرته على أي جزء من قطاع غزة بذريعة أنها مناطق عازلة، وإعادة إعمار ما دمّره الاحتلال، ودعم عائلات الشهداء والجرحى وكل من فقد بيته وممتلكاته ومصادر رزقه. الإصرار على مقاومة أي مسّ بالأقصى ومدينة القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية"، إذ كان الاحتلال قد أعلن في وقت سابق أنه سيمنع المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان.
وأعلن بيان الفصائل الفلسطينية "دعمه وإسناده الكامل للأسرى والأسيرات البواسل في السجون الذين يتعرضون لمختلف أشكال التعذيب والقمع، والتصميم على أولوية بذل كل جهد ممكن من أجل تحريرهم من أسر الاحتلال.
أكّدت الفصائل الفلسطينية ضرورة "حماية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ودورها الحيوي في رعاية اللاجئين الفلسطينيين حتى تحقيق عودتهم وتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194".
كما تمّ الاتفاق على أن تبقى اجتماعات الفصائل مستمرة في جولات حوارية قادمة، للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم كل القوى والفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
في إدارة المعركة العسكرية، نجحت فصائل المقاومة مجتمعة بإلحاق الخسائر بجيش العدو، ما أكد مجدداً مصداقية خيار المقاومة، ونجاعته، وأكد في السياق نفسه، جدية فصائل المقاومة، في الدفاع عن شعبها ومصالحه وحقوقه، وقدرتها على إعادة تقديم القضية الفلسطينية إلى العالم، باعتبارها قضية تحرر وطني لشعب تحت الاحتلال، يواجه آلة القتل الجماعي بشجاعة لا توصف، يُقتل ويتوجع، لكنه لا يسلم ولا يستسلم. وفي هذا الإطار استطاعت حركة حماس في إعادة تقديم نفسها إلى الرأي العام، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني، بفعل دورها وتضحياتها وصمودها، وصمدت المقاومة ككل وأحبطت أهداف العدو، ما يطرح سؤالاً: كيف نحوّل فشل العدو إلى هزيمة، وكيف نحوّل الصمود إلى انتصار؟
الإجابة الصحيحة على هذا السؤال تكون بإعادة التأكيد على ما يلي: الثبات على خيار مواصلة المقاومة والدفاع المستميت عن القطاع + تصعيد المواجهة بكل أشكالها في الضفة الغربية + تصعيد الحالة الجماهيرية المؤازرة للشعب الفلسطيني ومقاومته في كل مكان + استثمار جهود المساندة بمنحاها التراكمي الصاعد، التي نشأت في المحيط العربي: لبنان – سوريا – العراق – اليمن.
في إدارة المعركة السياسية افتقدت حركتا فتح وحماس معاً إلى القدرة على إطلاق مبادرة توحيدية، في اللحظة التاريخية التي صنعتها عملية 7 أكتوبر، والحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وبقيت الحالة الوطنية تفتقر إلى قيادة موحدة، معنية برسم الاستراتيجية الوطنية في متابعة مسار النضال الوطني الفلسطيني، وهو ما من شأنه أن يضعف الطرفين، القيادة الرسمية في رام الله، وقيادة حماس عند الوصول إلى مفاوضات مفصلية تتناول القضايا الأهم في ملف الصراع، والمثال الساطع على ذلك غياب الرؤية الفلسطينية الموحدة لما يسمى «مستقبل إدارة غزة»، سواء توقفت حملة «السيوف الحديدية»، أو استؤنفت بمسمى آخر.
حددت «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» موقفها حيال ما يتم تداوله من مشاريع، كما يلي: إن الحديث عن «اليوم التالي» إنما هو ترويج انهزامي يقوم على الرهان على إنكار المقاومة، وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في غزة، وفرض شروط الإسرائيلي المنتصر (زعماً)، ليس على القطاع وحده، بل على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كمقدمة لفرض شروطه السياسية التصفوية، وعليه، فإن كافة المشاريع والسيناريوهات التي تندرج في هذا السياق مرفوضة رفضاً قاطعاً، أياً كان شكلها، وأيا كان مصدرها، فليست إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا بريطانيا ولا أياً من الأطراف الإقليمية يملك الصلاحية في تحديد ورسم مستقبل قطاع غزة لا الآن، ولا في ما يسميه «اليوم التالي..». مستقبل غزة وأي بقعة من ترابنا الوطني المحتل، ترسمه الآن وفي كل أوان، وإلى دهر الداهرين، المقاومة والصمود البطولي لشعبنا، ولا شيء سواهما، وفي كل الأحوال لن يكون إلا مستقبلاً وطنياً فلسطينياً.