ما أن صعّد العدو الصهيوني من قصفه الهمجي على المدنيين في قطاع غزة، ودفع قواته إلى محاور هنا وهناك داخل القطاع، حتى انطلقت حملة إعلامية من المنابر المعروفة التي دأبت إشاعة اليأس والإحباط والتشكيك في المقاومة ومحورها، وكان القاسم المشترك بينها هو ما بعد غزة وما بعد القسام، وراحت تتبارى في نشر السيناريوهات المختلفة ومنها حل الدولتين.
وقبل أن نتناول هذا السيناريو بالذات ومضمونه وأطرافه وبقية الأوهام التي تحيط به، فليس من باب الأمنيات وانتظار ما لا يسر محور الصهاينة والإمبرياليين، القول بأن غزة لن تسقط، ولن يغادر القساميون غزة إلى أي منفى كما حدث مع بعض فصائل المقاومة بعد حصار بيروت 1982، إضافة إلى ما قاله السيد حسن نصر الله، من أن المقاومة بكل أطرافها لن تسمح بإضعاف المقاومة في غزة التي تؤكد كل يوم أنها قادرة على دحر العدو وتفويت الفرصة على مشاريع إلحاق غزة بالتسويات الأميركية – الصهيونية.
فالمعركة اليوم تجري على مستوى الإقليم كله بما في ذلك الاشتباك مع الوجود الأميركي في كل المنطقة، والحشد العسكري الأطلسي غير المسبوق المكرس للاشتباك مع محور المقاومة، لن يهزم مشروعاً سياسياً استراتيجياً مهما بلغت قدراته اللوجستية في حصار حلقة من حلقات هذا المشروع، وتحويل هذه الحلقة وغيرها إلى محطة نحو شرق أوسط متصهين ومتأمرك، والأرجح أن شرقاً أوسطاً جديداً يتشكل فعلاً وفق سؤال ما بعد المعسكر الأميركي – الصهيوني وأتباعه العرب وليس ما بعد حماس ومحور المقاومة.
بالعودة إلى سيناريو حل الدولتين والتمعن فيه، فهو راهناً غطاء لإعادة ربط القطاع بسلطة تسوية (معدلة) في الضفة، وهو في ما يخص بيئته الإقليمية، وأياً كانت التحضيرات التي تعدّ له، هو سيناريو برسم اشتباك سياسي، ميداني، محفوف بالأخطار والفشل عند المتورطين فيه، كما كانوا طوال العقود السابقة المجربة.
ذلك أن هذا السيناريو طبعة مكشوفة ومعروفة وملغم في كل تفاصيله وحيثياته، أولاً من زاوية موقعه الراهن في لعبة مثل حجارة الدومينو والأواني المستطرقة في الشرق الأوسط شديدة الصلة بالتجاذبات الدولية، أميركا والصهيونية والاتحاد الأوروبي وأدواتهم وتحالفاتهم، مقابل روسيا الأوراسية والصين، طريق الحرير، ومحور المقاومة بعواصمه وقواه الشعبية.
ثانياً: من زاوية حقيقته وأقنعته المصممة في خدمة العدو، كما من زاوية تاريخه الذي يعود إلى ما قبل تأسيس الكيان نفسه وتحضيراً له كما سنرى، فيما أظهرت تصريحات العواصم العربية والدولية المهتمة اليوم بما يسمى "حل الدولتين"، كما لو أن هذا الحل مبادرة جديدة سحرية للتداعيات التي فجرها "طوفان الأقصى" البطولي، والهمجية الصهيونية النازية بحق المدنيين، التي أعقبت الطوفان.
إذا كان معروفاً أن المشروع المذكور تحت عنوان حل الدولتين متداول منذ عقود وفي أوساط سياسية رسمية واسعة هنا وهناك، فلا بد من التذكير أيضاً بأن هذا المشروع طرح لأول مرة قبل ثمانية عقود، وتحديداً عام 1937 وعرف بـ"مشروع لجنة بيل" التي قدمت إلى فلسطين لإنهاء ثورة 1936 الكبرى، التي فجرها الفلسطينيون بعد تحضيرات سابقة بمشاركة مجاهدين ومناضلين من سوريا ولبنان والأردن مثل عزالدين القسام وسعيد العاص.
وقد حاولت واشنطن ولندن إنهاء هذه الثورة استباقاً لإرهاصات الحرب العالمية الثانية والحاجة إلى التهدئة في ساحة مثل فلسطين، وقد تضمن "مشروع بيل" تقسيم فلسطين وشرق الأردن معاً إلى دولتين يهودية وعربية، مع تدويل القدس، وعاد قرار التقسيم رقم 181 الصادر 1947 ليؤكد فكرة الدولتين مقتصراً هذه المرة على فلسطين وحدها (دون شرق الأردن).
ويمكن القول إن النزاع بين القيادة الفلسطينية ممثلة بالحاج أمين الحسيني وحكومة عموم فلسطين في غزة، وبين الأردن وتحالفاته الفلسطينية 1948 استمرار بصورة ما لهذا التصور، إذ قرر مؤتمران لشخصيات من الضفة الغربية محسوبة على عمان، توحيد الضفة مع الأردن في دولة باسم المملكة الأردنية الهاشمية، مقابل حكومة عموم فلسطين في غزة المدعومة من الملك فاروق في مصر وملك السعودية.
وعندما كانت التجاذبات واسعة بين المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر وبين المحور العربي الآخر وضمنه الأردن، طرح الوفد المصري وكذلك العراقي في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في شتورة في آب/أغسطس 1960 فكرة الكيان الفلسطيني وكان مقصوداً منها الضفة الغربية بشكل خاص، بل إن العدد الأول من مجلة "فلسطيننا" للمقاومة الأولى، كان غامضاً بشأن الكيان الفلسطيني المقصود، أي أن طيف فكرة الدولتين، اليهودية والفلسطينية ظل مسيطراً على معظم المشاريع المبكرة، قبل أن يصبح أكثر وضوحاً بعد حرب تشرين 1973 وقرار العرب في قمتي الجزائر والرباط تأمين الغطاء السياسي لكيان فلسطيني في الضفة الغربية.
هذا عن المقدمات التاريخية، أما عن التداعيات الراهنة لما بعد "طوفان الأقصى"، فيمكن ملاحظة أنه منذ الصيغة الأولى لأوسلو (أريحا غزة أولاً) فقد كان واضحاً أن غزة تحتل أهمية ملحوظة كحلقة مقاومة عسكرية أكثر منها محطة سياسية مجردة، بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، منها أن غزة أقل أهمية للكيان الصهيوني من زاوية مرجعياته الخرافية التي تمثلها الضفة الغربية (أرض يهودا والسامرة والقدس الداوودية).
ولم تصبح غزة على ما هي عليه اليوم من عقبة كأداة للعدو، إلا من زاوية أمنية – عسكرية، تتعلق بمحور المقاومة، لا من زاوية سياسية كما الضفة الغربية.
وكان تحول غزة إلى قلعة مقاومة مسلحة، من عبقريات محور المقاومة برمته، بعد أن كانت مجرد جيب رملي يمكن تأديبه صهيونياً في أي وقت، وهو ما يعني أن العدوان الإجرامي الصهيوني على غزة محمول بهواجس استراتيجية عسكرية أميركية – صهيونية بالدرجة الأولى بوصفها اليوم حلقة أساسية من حلقات المحور على مستوى الإقليم، ولا بد من (تحطيمها) لهذا السبب وتسليمها سياسياً لطرف فلسطيني من أطراف التسوية، يحظى برعاية عربية ودولية من معسكر واشنطن.
أيضاً وعلى خطورة محاولات الترانسفير من غزة إلى سيناء (سبق للفلسطينيين أن منعوا ذلك 1954-1955 وسقط شهداء من الحزب الشيوعي واعتقل آخرون، مثل الشاعر معين بسيسو، إلا أن الترانسفير فيما يخص غزة ليس بخطورة الترانسفير من الضفة إلى الأردن).
فبالإضافة إلى البعد التوراتي الخرافي لما يسمى يهودا والسامرة، فقد تمكن العدو منذ سيطرته على الضفة الغربية وحتى اليوم من ابتلاع قسم كبير من أراضيها وزرع عشرات المستوطنات فيها.
وبحسب جريدة "الغد" الأردنية الصادرة بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 يقدر عدد المستوطنين فيها بنحو 730 ألف مستوطن يتوزعون على أكثر من 350 مستوطنة وبؤرة استيطانية تشكل 42% من مساحة الضفة، ناهيك بالسيطرة الصهيونية على غالبية المناطق المعروفة بـ(ج) و(ب) وفق اتفاقية أوسلو، وتشكل معاً ما نسبته 80% من الموارد المختلفة بما فيها المياه.
كما جاء في المقال المذكور أن العدو يستعد لاستبدال العمالة الفلسطينية في الأراضي المحتلة 1948 (الكيان) وعددهم 170 ألف عامل بعمالة هندية، وهو ما يعني أن الضفة في الواقع العملي، تخضع لاحتلال شبه كامل بأشكال مختلفة، ومن الممكن أن تتحول قريباً إلى ساحة للترانسفير نحو الأردن.
وثمة ما يقال عن مشاريع أميركية لضخ مليارات في الأردن لخلق بيئة جاذبة لذلك، وقد تكون برامج المساعدات التي خصصت للأردن لاحقاً وبصورة مفاجئة خلال العدوان الصهيوني على غزة ذات صلة بهذا الموضوع، ومنها 6 مليارات من الإمارات ومليار يورو من الاتحاد الأوروبي ومليار من البنك الدولي.
انطلاقاً من تشبث العدو باحتلال الضفة سياسياً وعسكرياً وأمنياً مقابل ترتيبات لحضور طرف فلسطيني سياسي في غزة من جماعات التسوية المزعومة، فالمرجح هو السيناريو التالي في العقل الصهيوني الأميركي (سيناريو وليس قدراً وخاصة مع هذا التحول الكبير في قدرة المقاومة وبسالتها):
- تسليم المعسكر الأميركي – الصهيوني وأعوانه بصعوبة تكسير محور المقاومة في حلقة غزة والبحث عن تسوية بين المعسكر والمحور.
- ينطلق السيناريو من افتراضات عديدة حول مستقبل حماس في القطاع تسلم بصعوبة تصفيتها: حماس مع أسلحتها بلا دور سياسي، أو مشاركة حمساوية سياسية بأقل قدر من السلاح وفقاً لتجارب عالمية مثل المقاومات في أيرلندا الشمالية وكولومبيا.
- تحت عنوان دولة فلسطينية شكلية تربط الضفة بغزة، إعادة الاعتبار لشعار غزة – أريحا أولاً، وبالأحرى غزة أولاً زائد مطار وميناء بإشراف عربي – دولي من جماعات التسوية.
- في ما يخص الضفة الغربية، إعادة إنتاج شكل من تقاسم وظيفي، من جهة يربط الضفة بغزة في إطار دولة شكلية، ومن جهة يوسع علاقتها مع الأردن مقدمة لإنتاج حالة كونفدرالية في ظروف ملائمة لذلك عند الأطراف ذات الصلة.
في هذا السياق، إذا كان معروفاً أن الترانسفير جزء أساسي من استراتيجية العدو، بيد أن هذا الترانسفير المؤجل من الضفة إلى الأردن سيكون مركباً، ولن يكون الجانب الناعم القسري منه أقل خطراً من الجانب الخشن القسري، فالعدو لن يخفف قبضته الإجرامية على الضفة مهما استخدم من أقنعة، لكنه سيراهن على بيئة اقتصادية تجري تغذيتها بأشكال مختلفة من ضخ أموال خليجية وأميركية في الأردن مقابل التضييق على الوضع الاقتصادي في الضفة، وليس بلا معنى هنا المكانة الخطيرة التي يحتلها صندوق الاستثمار الإقليمي، ودور الخليج فيه، وهو المشروع الذي سبق لشمعون بيريز أن اقترحه في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" أو خلال معاهدة "وادي عربة".
وسبق لسياسات اقتصادية كهذه أن اتخذت في أوقات سابقة، فبعد ضم الضفة الغربية للأردن، حرصت الدول الإمبريالية، بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا على تركيز المساعدات المقدمة للأردن في الضفة الشرقية بالتزامن مع فتح الخليج للفلسطينيين والأردنيين وتحويل أموالهم إلى هذه البيئة.
إلى ذلك، ثمة استدراك هام جداً، هو أن توطين الفلسطينيين في الأردن أو خلق بيئة لهذا التوطين، لا يعني توطيناً سياسياً، فما هو مطروح في العقل الصهيوني – الأميركي توطين سكاني انطلاقاً من اعتبارات سياسية أولاً، ومن اعتبار العقل اليهودي للمنطقة بين البحر والصحراء (صحراء الأنبار) أرضاً يهودية يعيش عليها سكان عرب، سواء كانوا أردنيين أو فلسطينيين.