• الانهيار الأخلاقي للحضارة الغربية
    2023-11-23
    عماد الحطبة

    دأبنا كمثقّفين على الفصل بين الإنجازات العلمية والفكرية للحضارة الغربية، والسلوك السياسي والعسكري لهذه الحضارة. في سياق هذا الفصل، القسري، نظّرنا للقبول بتلك الإنجازات والسعي لتبنّيها والسير على طريقها بصفتها إنجازات محايدة لارتباطها بالعلم والتقنية، وفي الوقت نفسه حاربنا السلوك السياسي والعسكري لهذه الحضارة باعتبارنا مقاومين مناهضين للرأسمالية وشرورها. علينا الاعتراف اليوم بسذاجة موقفنا، بل ولعل بعضنا تواطأ عن قصد في تعميم الفكرة التآمرية "العقل للغرب والقلب للشرق".

    منذ بداية القرن التاسع عشر أعلنت الحضارة الغربية انفصالها عن المطلق اللاهوتي، وارتباطها بالحداثة العقلانية التي أطلق زنادها الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط". لكن هذه الحداثة العقلانية لم تكن في نتائجها سوى عقلانية زائفة ذات طبيعة سلطوية استفردت بالحياة الاجتماعية محوّلة الأفراد إلى أشياء خاضعة للضبط والتحكّم، مما دفع مشروع الحداثة الغربية نحو حالة من الاختناق والتأزم.

    وعلى الرغم من اندفاع مشروع الحداثة الغربية إلى تحقيق المزيد من الإنجازات المادية "الثورات" الصناعية، ووسائل الاتصال، والتقنية، إلا أن المحتوى الأخلاقي لهذا المشروع استمر في الانهيار وأصبحت الأزمة التي يعيشها هذا المشروع أكثر عمقاً وتجذّراً.

    بعد مرحلة الاستعمار، وما جنته على العالم من خراب ودمار ونهب، ظهرت الفاشية والنازية في أوروبا لتكون التجلّي الأكثر وضوحاً لأزمة المشروع الحداثي الغربي. لقد جاءت النازية لتعبّر عن احتقار الحضارة الغربية للإنسان حتى لو كان جزءاً من الحضارة الغربية نفسها. لقد ترجم هايدغر هذا الموقف في خطابه في جامعة فرايبورغ عام 1933: "القوة هي التي ترفع الفرد الارستقراطي فوق سوقية العامة وخشونتها، والارستقراطي الذي يختار المجد يرفّع إلى مصاف الأشراف وينال المنزلة والسلطة اللتين هما أيضاً من مختصات الوجود، أما العامة (الشبعانة كالدواب) فإنها ليست إلا مجموعة من الكلاب والحمير".

    هذا الخطاب الفاشي سمعناه يتكرّر على لسان مسؤولين غربيين كثر؛ ريغان، تاتشر، وبوش الأب والابن، جوزيب بوريل، وجو بايدن وريشي سوناك، وماكرون وشولتز ونتنياهو. وسمعناه من الصحافة الغربية التي تدّعي المهنية والحرفية، كلنا نذكر تعليقات الصحافة الأوروبية المرئية والمسموعة في بداية الحرب الأوكرانية، عندما وصفوا اللاجئين بأنهم من البيض الشقر ذوي العيون الزرقاء، وليسوا قادمين من العراق أو سوريا أو أفغانستان.

    وصل هذا الانهيار الأخلاقي إلى أدنى مستوى له في الحرب على غزّة. لا يتعلق الأمر، فقط، بعدد الشهداء، وارتفاع نسبة الأطفال والنساء إلى ما يقرب نصف عدد الشهداء، لكن بشكل الحرب التي تنقل بالصوت والصورة في جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أمام العالم "مدّعي" الحضارة والعقلانية وبدعم من حكوماته ومؤسساته السياسية والإعلامية. 

    قامت الرأسمالية عبر تاريخها على ارتكاب المجازر بحق الشعوب، سواء من خلال إبادة السكان الأصليين كما حدث في أميركا، ونيوزلندا، وأستراليا، أو بتدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية ونهب الثروات كما حدث في آسيا وأفريقيا. رغم محاولة الرأسمالية التغطية على جرائمها بتبنّي الوثائق والمعاهدات المتعلّقة بحقوق الإنسان، إلا أنها لا تتردّد للحظة في تعليق منظومتها القانونية والأخلاقية إذا دعت مصالحها لارتكاب المزيد من المجازر كما فعلت في فيتنام والعراق وأفغانستان وقبلها فلسطين. 

    المجزرة التي تُرتكب اليوم في غزة غير مسبوقة في تاريخ الإجرام الرأسمالي الغربي. أن تقوم قوات عسكرية كاملة التجهيز باقتحام مستشفى، وإخلاء المرضى تحت قوة السلاح في ممر "إنساني" مزعوم، وأن تقوم في اليوم نفسه بقصف مدرسة تابعة لوكالة دولية مخلّفة أكثر من 200 شهيد معظمهم من الأطفال ولا يستدعي ذلك أكثر من التشديد على الاعتبارات الإنسانية، أو بالحد الأقصى تصريح بعدم وجود مبرّر لمثل هذه الأفعال، هذا السلوك لا يقول إننا أمام جريمة حرب، بل أمام أكبر انهيار أخلاقي وإجرام عرفته البشرية عبر تاريخها.

    لقد أثبتت الحرب على غزّة أن الحضارة الغربية كاذبة في كل ما يتعلق بها، وبشكل خاص ما يسمى "المضمون الإنساني"، وأن جميع الشعارات التي رفعتها من ديمقراطية وحرية وإنسانية، ليست سوى أدوات في حربها على الشعوب لا تقل في خطورتها عن الدبابات والطائرات وفرق القوات الخاصة.

     ملايين الناس التي تملأ شوارع المدن الغربية لم تقنع الديمقراطيات الغربية بمجرد التصويت مع قرار لوقف إطلاق النار في غزة. أعداد أقل بكثير كانت كفيلة بإحضار جنود الناتو لتدمير دول وعزل حكومات بدعوى نشر الديمقراطية. في الغرب الحرّ تكفي تغريدة أو إدراج على وسائل التواصل الاجتماعي لتعريضك للمساءلة القانونية وفصلك من عملك. الغرب نفسه يسنّ القوانين التي تمنع التعاطف مع ضحاياه بل وحتى رفع العلم الفلسطيني في شوارعه. 

    هذه هي الصورة الحقيقية للحضارة الغربية. حضارة مجرمة لا بدّ من التحرّر من قيودها. ليس فقط التبعية الاقتصادية والسياسية ولكن، وقد يكون الأهم، التبعية الحضارية وأوهام السير على خطاها أو التشبّه بإنجازاتها. علينا محاربة هذه الحضارة شكلاً ومضموناً، فلا نكتفي بمقاطعة منتجاتها المادية، بل ومقاطعة منتجاتها الثقافية وعقلانيّتها وحداثتها المجرمة. علينا العمل مع المعذّبين في الأرض، مع المقاومين والضحايا لإنتاج حضارة جديدة تقوم على العدل الحقيقي، ويكون جوهرها الإنسان ومصالحه.  


    http://www.alhourriah.ps/article/85607