منذ أن انطلقت مسيرات العودة في 30 مارس عام 2018م، كانت القرارات والتشاورات سواء إعلاميًا أو سياسيًا أو ميدانيًا وإن كان هناك بعض التجاوزات، فإنها تؤخذ إلى حد ما بشكل وطني جامع من أجل الحفاظ على لُحمة شعبنا ومواصلة نضاله بشتى الأشكال والأساليب المتاحة. استقبلت الجماهير الفلسطينية صباح اليوم الأربعاء 30-8-2023م بحالة من الانتقاد الشديد على منصات التواصل الاجتماعي، إعلان الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار (كما يطلق عليها)، قرار البدء بإعادة تجهيز وتأهيل مخيمات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، بدءً من ظهر اليوم. في الحقيقة، لا أجد تفسيرًا منطقيًا لهذا القرار الذي أعده مُفاجئًا، في ظل استمرار تهديدات الاحتلال الإسرائيلي باغتيال قادة المقاومة من الفصائل الفلسطينية، والتلويح بإمكانية اشتعال جبهات القتال كافة. فلا أعتقد أن هذا الاحتلال الذي يواصل ارتكابه لمجازر دموية بحق شعبنا في مناطق الضفة الفلسطينية، إضافة لعمليات التهجير القسري، وتفشي الاستيطان ومنح المستوطنين صلاحيات وقرارات أقل ما يمكن وصفها بالعنصرية والفاشية، والتحريض اليومي، والإعدامات، والاعتقالات.. يمكن أن يسمح بإعادة التظاهرات الشعبية على الحدود الشرقية بهذه السهولة دون أن يرتكب مجزرة كبيرة تؤدي على الأقل إلى تصعيد عسكري مع غزة، وبهذه الحالة يكون قد حرف الأنظار وحقق هدفه الأسمى وهو إضعاف أو إنهاء حالة الاشتباك المتصاعدة بالضفة، ومنح رئيس حكومة الاحتلال الفاشية المتطرف «نتنياهو» فرصة النجاة من أزماته الداخلية التي زعزعت الحالة الأمنية والاقتصادية والقضائية داخل «إسرائيل». عودة إلى قرار المسيرات، من العجيب أننا لم نسمع أو نرى تلميحًا من أي فصيل سياسي سواء وطني أو إسلامي (حتى لو مقرب من حماس التي تدير قطاع غزة)، عن إمكانية العودة لهذا الخيار من الاشتباك مع الاحتلال، خاصة وأنه لم يعد مُجديًا أمام تغول الاحتلال وإرهابه الذي شاهدناه خلال استهدافه للشبان المدنيين على حدود غزة، حيث أظهرت إحصائية أنه سقط قرابة (215) شهيد فلسطيني منذ بداية المسيرات حتى العام 2020م، فيما أصيب الآلاف من جماهير شعبنا، وعلى ماذا، هل أنجزت حق العودة؟ أو على الأقل كسرت الحصار؟! هذا التساؤل ليس تقزيمًا لهذا الدور الميداني والحق المشروع، بل هو مكفول لأي مواطن فلسطيني طالما الاحتلال جاثم على صدورنا، لكن في ذات الوقت، علينا أن نحكم العقل قليلًا، لأن خصوصية غزة الجغرافية، والمعادلة القتالية التي فُرضت مع التطور العسكري الملحوظ، قد جعلت تأثير خيار التظاهر الشعبي ضعيفًا، فلا نريد أن نعمق الجُرح الغزي، وألا نساهم في تفاقم الأوضاع وتدهورها على مختلف الصُعد. شعبنا اليوم في قطاع غزة يعاني أزمات جمة، وبحاجة إلى تعزيز مقومات صموده أمام حالة الفقر والجوع والبطالة المتفشية بالمجتمع، والتي لا ننكر أن للاحتلال دورًا أساسيًا في تكريسها عبر الحصار المطبق على القطاع منذ أكثر من 15 عامًا، إضافة للسياسات العدوانية التي مارسها خلال الحروب السابقة على القطاع وهدفت لتدمير الاقتصاد الوطني بالدرجة الأولى، إضافة لواقع الانقسام الأسود الذي أنتج سياسات اجتماعية واقتصادية مدمرة أثرت على الحياة العامة للمواطنين. ولسنا بعيدين عن حوادث «قوارب الموت» الأليمة التي يستقلها شبابنا هربًا من واقع العيش المزري بغزة، بحثًا عن حياة كريمة وآمنة. فآن الأوان لأن نجدد العهد مع شعبنا ونمنحه الحق في الحياة باستعادة وحدتنا الداخلية وتعزيز صموده على أرضه، ومجابهة الاحتلال بقرار وطني موحد عبر إستراتيجية وطنية كفاحية. انصح القائمين على هذه المسيرات أن يحتفظوا بشكلها وطابعها السلمي، أي عدم السماح للشبان بالتقدم نحو السياج، ولتكن موقعا لتسويق الرواية الفلسطينية عبر شاشات الإعلام والنشاطات الوطنية التُراثية، وأن يحافظوا على حالة الاشتباك المُتصاعدة بالضفة، وتفويت الفرصة على «نتنياهو» الذي يعاني أزمته الداخلية، فاعلموا أن الاحتلال لن يتهاون مع أي حركة جماهيرية يمكن أن تؤثر عليه إعلاميًا أو ميدانيًا، خاصة في ظل تهديداته بالاستعداد لحرب شاملة.