من الذي اخترع مقولة انتخابات جامعة بيرزيت هي الأهم، وهي التي تعكس صورة الرأي العام، واتجاهات الشارع الفلسطيني؟ ولماذا صدقنا هذه المقولة، وسرنا معها وكأنها من المسلّمات؟
بحسب الأدبيات الماركسية، فإن الطلبة يمكن تصنيفهم ضمن ما تسمى «البرجوازية الصغيرة»، وهي شريحة اجتماعية غير متجانسة، ينتمي أفرادها إلى جميع الطبقات، ويعيشون نزعات متناقضة وبين تجاذبات المجتمع المختلفة، والطلبة بالذات شريحة نشطة تتأرجح بين تأثير الطبقات المُسْتِغِلَّة سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً وتأثير الطبقات الواقعة تحت الاستغلال المباشر والظلم. وهي أيضاً شريحة غير منتجة، وغير مدركة لمصالحها الطبقية، ويتصرف أفرادها في كثير من الأحيان بشكل يتناقض مع ثقافة وسلوك الطبقة التي ينتمون إليها. وبسبب تنوع أصولهم الطبقية، وتباين فئاتهم الاجتماعية، ظلت الحركات الطلابية في حالة تذبذب دائم بين الاتجاهات السياسية المختلفة، وفي حالة صعود وهبوط حاد.. لهذه الأسباب وغيرها يصعب القول: إن الطلبة يعكسون واقع المجتمع واتجاهات الشارع بشكل دقيق. ربما تعطي انتخابات الطلبة إضاءات معينة، أو مؤشرات محددة، لكنها لا تمثل بالضرورة توجهات المجتمع كله.
كما أن مدى تمثيل الطلبة للمجتمع، وتأثيرهم فيه يختلف باختلاف المرحلة التاريخية، ففي أزمنة سابقة كان التعليم الجامعي حكراً على أبناء الطبقات الحاكمة والثرية، إلى جانب جزء بسيط من أبناء الطبقات الوسطى، وكان الدور الوظيفي المنوط بهؤلاء خدمة الطبقة الحاكمة وسياساتها الفكرية والأيديولوجية والاقتصادية، وإعادة إنتاجها؛ فكانت الجامعات مسخّرة بشكل رئيس لإنتاج الأطباء والمحامين وكبار موظفي الدولة ومدراء الشركات الكبرى، ما يعني أن دور الجامعات صُمم خصيصاً لهذا القطاع الاجتماعي وكان موجهاً إلى الصفوة، وفي مثل هذا النظام التعليمي لا يمكن أن يصبح الطلبة ثوريين ومعارضين، بل سيتخذون موقفاً رجعياً واستغلالياً عندما تواجه طبقاتهم الاجتماعية تهديداً من قبل الطبقة العاملة، أو من عامة الشعب.
ومع مرور الزمن لم تعد الجامعات مسخّرة للأثرياء، وتغيرت التركيبة الاجتماعية للطلبة وللمحاضرين، ولم تعد البرجوازية هي الأصل الطبقي للطلبة، وصارت الجامعات متاحة للجميع أغنياء وفقراء، وصار جمهور الطلبة عبارة عن جماعة مركزة في مكان وزمان، تشعر أنها مضطهدة، ويساورها القلق وعدم الأمان بالنسبة للمستقبل في ظل ظروف اقتصادية طاحنة، وتعاني حالة من الاغتراب العام، خاصة أن الشبان في هذا العمر يتسمون بالاندفاع والتطرف والتفكير العاطفي.. وهذه الحالة تعبر عن نفسها بشكل سلبي أحياناً، مثل اللجوء إلى المخدرات أو الاهتمامات السطحية، وأحياناً بشكل إيجابي في شكل حركات احتجاج اجتماعية أو تمرد سياسي ضد السلطات، وتبنّي أفكار أحزاب المعارضة والرافضة للنظم الحاكمة، مع استجابة سريعة لأي مؤثر سياسي خارجي.
ومع تنامي قوة حضورها كحركة صاعدة تمثل قوة سياسية مهمة على الساحة، أخذت الحكومات والأحزاب تسعى إلى السيطرة على الحراكات الطلابية واحتوائها وضمها واستقطابها لصالحها.
وتزداد أهمية الحراكات الطلابية عندما ترفض النظم السياسية حل المشاكل والأزمات الاجتماعية والسياسية، وعندما تكون الطبقات الشعبية غير مستعدة أو غير قادرة للاضطلاع بهذه المهمة، فيتطوع الطلبة لحلها بطريقتهم الخاصة. وهذه الظاهرة توضحت وتعمقت أكثر بدءاً من بدايات القرن العشرين، حيث لعب الطلبة دوراً محورياً في إطلاق وقيادة الثورات الشعبية وحركات الاحتجاج.
في فلسطين بدأت شعلة الثورة بين صفوف الطلبة، الذين لم يكتفوا بالانخراط في الثورة، بل تبوؤوا مناصبها القيادية، وقد لعب الاتحاد العام لطلبة فلسطين، خاصة في الشتات، دوراً بالغ الأهمية في النضال السياسي والنقابي والتعبوي وحتى العسكري. وفي الأرض المحتلة ظلت الجامعات الفلسطينية مشاعل للثورة، ووقوداً للانتفاضات، تصدر الكوادر التنظيمية والشهداء والأسرى والقادة. وكانت الحياة السياسية فيها صاخبة حيث تقام المهرجانات والمناظرات الفكرية والسجالات السياسية، ويمتد تأثيرها خارج الجامعة، في تنظيم التظاهرات والمبادرات الاجتماعية والانخراط في الأحزاب والقوى الوطنية.
لكن هذا الدور الريادي والطليعي للجامعات أخذ يخبو ويتراجع لصالح استفحال ثقافة استهلاكية، وأنماط سلوكية مغتربة، واهتمامات سطحية، أو على الأقل اهتمامات غير سياسية، وهذا أتى انعكاساً لتدهور حالة التعليم، ولتدهور الحياة السياسية، وتراجع الأداء النضالي لفصائل العمل الوطني، وبسبب تهميش الشباب من قبل المؤسسات الرسمية والحزبية.. وأيضاً نتيجة متغيرات كثيرة لها علاقة بإيقاع العصر والعولمة وثورة الاتصالات والميديا.
من علامات هذا الانحدار - أو التغير إن شئت - معايير انتخاب الكتل المتنافسة، فعوضاً عن معايير الأفكار والتوجهات والبرامج، صارت المعايير تصيّد أخطاء الآخرين، مهما كانت تافهة (رفع العلم بالمقلوب، أو عدم الانتباه لخطأ مطبعي على صورة الأسير القائد مروان البرغوثي، أو تصيّد أخطاء شخصية للمرشحين، أو إسقاط أخطاء القيادات الحزبية والسياسية على الكتل المتنافسة..)، والمعيار الثاني هو المناكفة، حيث يختار الناخب كتلة لا يؤيدها (أيديولوجياً وسياسياً) ولكنه اختارها نكاية بالآخر.. ومثل هذه المعايير موجودة على مستوى المجتمع بشكل عام، وفي معظم الدول، لكن من المفترض أن طلبة الجامعات يمثلون النخبة المتعلمة والمثقفة، وبالتالي يتوجب أن تكون معاييرهم أرقى وأكثر وعياً.
وأيضاً لاحظنا الغياب المدوي لقوى اليسار، وبدلاً من التنبه لدلالات ذلك، مارسنا التنمر والسخرية، فهل يُعقل ألا يكون من بين عشرات آلاف الطلبة أقلية ولو صغيرة تمثل الأفكار والتوجهات اليسارية؟ لا حاجة لتذكيرنا بأزمة اليسار العالمي، وتراجع القوى اليسارية محلياً وعالمياً.. ولكن الأفكار اليسارية نفسها لا تموت، خاصة أفكار العدالة الاجتماعية، والمساواة، والاشتراكية، وحقوق الإنسان والمرأة، والكادحين والعمال، ومناهضة البرجوازية الطفيلية وتوحش الرأسمالية والدكتاتورية والرجعية.. فأين برامج الكتل الانتخابية من هذا كله؟ ماذا يعني أن تخلو الجامعات من معتنقي هذه الأفكار وأن تفتقر للتعددية الفكرية وتختزل كل توجهات الطلبة بين خيارين، هما في حقيقة الأمر انقياد ورضوخ لحزبين حاكمين، فلا نجد أثراً لأفكار التمرد والحرية والنقد، والفكر التقدمي الإنساني؟!
حتى لا نحمّل الطلبة فوق طاقتهم، ونطالبهم بما هو أكبر من أعمارهم، أو على الأقل ما هو خارج نطاق اهتمامهم، علينا ألا نحمّل انتخابات الطلبة أكثر مما تحتمل، وألا نسيّس الانتخابات أكثر من اللازم، وألا نُسقط عليها رغباتنا السياسية وصراعاتنا الحزبية، وألا نُسقط معايير الجيل القديم على الجيل الشاب.. انتخابات الطلبة مهما حملت من معانٍ ودلالات سياسية وحزبية هي في نهاية المطاف تنافس بين كتل طلابية لتقديم خدمات طلابية.
لندع الطلبة يخوضون تجربتهم الخاصة، وعلى طريقتهم الخاصة، التنافس والاختلاف أمر طبيعي وصحي، تدخلات الأحزاب والأجهزة الأمنية هي التي تفسد الأمر، النجاح الحقيقي هو في العملية الانتخابية بحد ذاتها، وفي جعل الاقتراع نهجاً دائماً، وفي تربية الطلبة على ثقافة الاقتراع والاحتكام للصندوق، واحترام التعددية.