"العنصري في غربته".. سيرة مهاجر بين الأدب والفلسفة
2023-04-16
دمشق(الاتجاه الديمقراطي)
"لماذا قد أستعين بالحكاية وأسرب خيوط البحث عن التفسيرات والتأويلات والتوريات والكنايات؟ لماذا لا أضع الحكاية بشكلها الفج القاسي أمام القارئ المفترض وأثير لديه رغبة الإفصاح بدوره عن رأيه من دون ترقيع أو تجميل؟".
بهذا التساؤل ذي الصبغة الشكلية يفسر لنا الروائي والناقد والمترجم السوري هيثم حسين في سيرته "العنصري في غربته" سبب ركونه إلى الأسلوب المباشر في سرد الحكايات والتعليق عليها، ويضيف مستنكرا "ما فائدة الحكاية إن لم تكن كصفعة أو تمهّد لفتح صفحة نفسية جديدة في تاريخ القارئ؟".
وانطلاقا من هذه القناعة، يدون صاحب سيرة العنصري في غربته، الصادرة حديثا عن منشورات رامينا-لندن، مجموعة من النصوص التي ينفتح كل منها على مشهد قصصي يثير من خلاله الكاتب قضية شخصية أو عامة يناقشها من زواياها المختلفة بأسلوب ينوس بين القص والنقد والتعليق.
ويبدو نقد العنصرية وتفكيك الظواهر المتصلة بها ثيمة رئيسية لنصوص السيرة، لاتصال العنصرية وتجلياتها بشكل وثيق بحياة الكاتب وسيرته مذ كان طفلا في سوريا، بينما يشغل التأمل في مسائل كالمنفى واللغة واللجوء والأدب فضاء العاطفة والتجربة الإنسانية والأدبية في السيرة.
عنوان يتسع لحكايات العنصرية
تحضر الذات كإشكالية دلالية منذ العتبة الأولى للسيرة "العنصري في غربته"، التي تثير في ذهن القارئ التساؤل البديهي: هل يُعقل أن يصف الكاتب نفسه بالعنصرية؟
ولكن مع قراءتنا لأولى سطور السيرة يتضح أن القناعة التي ينطلق منها الكاتب للتدوين تقول: "إن كل واحد منا يخفي في داخله جوانب عنصرية، أو يتكتم على شخصيات عنصرية متصارعة في أعماقه، بحيث يكون الجانب الوحشي غير المفلتر منا مشتملا على نقائض يمكن تأثيم أي كان، قريب أو بعيد، بناء عليها أو انطلاقا منها".
فالذات في هذه السيرة "متقاطعة مع الآخر، والأنا هنا أنوات متعددة، تراها في تجاذب تارة وفي تصارع تارة أخرى. وقد جاء العنوان بصيغته التي قد تبدو فجة أو مستفزة، وبتوصيف العنصري بداية، لتحريض القارئ للتعرف إلى ذلك الشخص الذي يصف نفسه بهذا الوصف الذي يتهرب منه المرء عادة"، كما يقول حسين في حديثه.
ويضيف: "وتكون الإشارة إلى غربته في العنوان من باب المواءمة بين الصفة ودلالاتها وإسقاطاتها في مختلف الأمكنة التي يتنقّل الكاتب فيما بينها، الذي أستعمل ضمير المتكلم في أغلب الأحيان للحديث عما يدور في داخله من أفكار مهما بلغت درجة غرابتها أو تطرفها، وفي بعض الأحيان أسائل ذاك الكاتب الذي أستنطقه بحيث يعبّر عن غيري ممن أتقاطع معهم أو أنقل معايناتهم في بلادهم وفي مغترباتهم".
ونهاية فهو عنوان يتسع لحكايات العنصرية "في براح الغربة، في سجن ما كان يسمى بالوطن، وفي رحابة ما يسمى بالمغترب أو المنفى"، بحسب حسين.
مدارات العنصرية
يحاول الكاتب في أول نصوصه تفكيك ما سماه "مثلث الرعب" المتمثل بصراع الألوان والأهواء، فالصراع يشتد كلما اشتد التمييز بين الألوان (الطائفية والعرقية والجنسية)، ويعتقد من يقيم هذا التمييز أنه على حق طالما أنه يلبي نزوع هواه ويدافع عن لونه ضد الألوان الأخرى، ولكن في نهاية المطاف فإن "تابع الهوى امرؤ يعميه هواه، ويغشي عينيه عن رؤية الألوان لدى الآخرين الذين يلقي عليهم غيمته السوداء".
ومن خلال مشاهداته عبر مراحل حياته المختلفة يسوق الكاتب أمثلة عن العنصرية وحضورها في حياتنا اليومية، وتبدأ تجلياتها في الحي حيث التمييز القائم بين الأطفال على أساس الذكورة والأنوثة، وتنتقل إلى المدينة مع التمييز الذي يقيمه ابن المدينة بينه وبين القادم من المناطق الريفية النائية، وتنسحب على السوري العربي الذي يقيم التمييز بينه وبين السوري الكردي، وهكذا تستمر الألوان في الصراع لتصبح في النهاية رهينة "لون باهت يخبو بالتقادم، ويتحول إلى عالم أسود شاحب منغلق على ذاته".
ومع قراءتنا لـ"ابتسامة ألبيرت" و"بطاقة حمراء" و "الصليب المعقوف" نجد أن مدارات العنصرية في السيرة ما هي إلا مجموعة من الدوائر التي تتسع وتضيق بحسب الزمان والمكان، وتتقنع بألف قناع وقناع، لكنها تبقى محفزة وكامنة في الطبقات الباطنية من نفوس البشر دون أن يشعروا بها، ومع أول اختبار تتفجر العنصرية مجددا وتتطاير شظاياها لتملأ المكان.
وهو ما حدث في نص "بطاقة حمراء" عندما دفع موقف سخيف رجلين أحدهما أبيض فقير والآخر أسمر غني إلى التصادم في يوم مناهضة العنصرية، ليعود إلى ذاكرتيهما كل الماضي العنصري بين البيض والسود والأغنياء والفقراء، ويندلع الحقد وتنبثق الكراهية في قلبيهما متناسيين رمزية الفعالية ودلالتها (يوم مناهضة العنصرية).
ويرى حسين أن أقوى وأخطر أسلحة العنصرية هي قدرتها على التلون والظهور بتمظهرات مختلفة، فقد ترتدي "أردية البراءة وتحيل إلى مظلومية ما، فتبرر ما قد يرتكب باسمها من موبقات وكوارث. تبدأ شرارات الكارثة حين شيطنة الآخرين وتأثيمهم وتحميلهم أوزار التاريخ والراهن، وكأنهم علامات سوداء على طريقنا وينبغي علينا التخلص منهم. ولا يخفى أن هذا المنطق يبرر ما قد يليه من جرائم، ويفتح باب الذرائع على مصراعيه لمن ينثر ضغائنه على ذاته وغيره".
وعن أهمية إثارة قضية العنصرية والكتابة عنها في عصرنا الراهن، يقول حسين للجزيرة نت: "إننا بحاجة إلى تحييد تأثيرات العنصرية الخطيرة أو تخفيف وطأتها علينا وعلى الآخرين ممن نعيش معهم في أماكننا ومدننا، وفي فضاءاتنا المفتوحة التي قد تظهر كمسارح لتجليات قاهرة من محاولات النيل من الآخرين أو التنكيل بهم تحت شعارات وذرائع مختلفة".
الآخرون هم الجحيم
يعمد الكاتب في نص حمل عنوان "اللاجئون هم الآخرون هم الجحيم" إلى إعادة صياغة المقولة السارترية الشهيرة "الآخرون هم الجحيم"، ليتجاوز المقاربة الفلسفية والأدبية التي أقامها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مسرحية "الأبواب المغلقة"، لإسقاطات العبارة السياسية والاجتماعية على راهن المجتمعات الغربية التي تشهد صعودا مستمرا لليمين، وتناميا لخطابات السياسيين الإقصائية والعدائية ضد "الآخرين".
ينفتح النص على حوار بين الكاتب (اللاجئ) وامرأة إنجليزية حول اللاجئين. تخبره المرأة أنه في الوقت الذي يفرق اللاجئون فيما بينهم على مستوى المشارب والثقافات واللغات، فإنها لا تفرق فيما بينهم، فهي تراهم جميعهم سواسية على الضفة الأخرى من المكان.
وانطلاقا من هذه الحوارية القصيرة يحاول حسين إلقاء الضوء على بؤرة الصراع في تلك المجتمعات، وتعرية الأساليب التي يتبعها الشعبويون من سياسيين وقادة رأي في الغرب عموما وبريطانيا خصوصا، لاستمالة الأفراد في خطبهم التي تعمل على "شيطنة" اللاجئين وتحويلهم إلى وقود لحروب انتخابية.
فالشعبوي "يحرص على تعزيز فكرة أن الآخرين هم الجحيم، وأن النعيم الموهوم يكون بعيدا عنهم، لذلك لا بد من رفع الأسوار في وجههم". والآخرون هنا هم اللاجئون والمهاجرون الذي ينتمي الكاتب إلى فئتهم.
ومن خبرته المعيشة وتأملاته الأدبية والفكرية، يقول حسين : "أعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يبني عالمه، وطنه، فضاءه المحلوم به، وهو يلغي في الوقت نفسه أناسا يعيشون معه ويقاسمونه ماءه وهواءه، ولا يمكن ملء البلاد، أي بلاد، بجدران لا مرئية متشاهقة بين أبناء البلاد، وهذا ينطبق على البلدان المجاورة لسوريا والبلدان الأوروبية التي لجأ إليها السوريون في شتاتهم الذي يعد عارا يلطخ جبين العالم الذي يصف نفسه بالمتحضر".
وعن خصوصية اللجوء السوري، يضيف حسين: "تأتي محنة لجوء السوريين في عالم كنا نعتبره حديثا ومعاصرا ومجمّلا بمزاعم حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها من الكليشيهات الأخرى، التي اكتشفنا أنها تستعمل كمحسنات بديعية لا غير، وتفقد على محك الواقع معانيها وتبدو جوفاء خالية من أي قيمة".
ولرصد مختلف مظاهر محنة لاجئي العالم، أفردَ حسين مجموعة من النصوص (جدران عازلة، جسور تجارية وغيرها) سلط من خلالها الضوء على تجليات العنصرية والشعبوية ومخاطرها على اللاجئين والمهاجرين والمجتمعات المضيفة.
رغم الظاهر الشكلاني المؤطر لهذه النصوص (سيرة ذاتية)، وما تحيل إليه السيرة -بوصفها جنسا أدبيا- من خصائص مميزة ومُفترضة في ذهن القارئ كالبوح السيكو سردي للكاتب عن مشاعره وأفكاره، أو سرده عن أحداث عايشها أو عاصرها، فإن سيرة "العنصري في غربته" تشذّ عن هذا القالب المعياري لجنس السيرة، وتؤلف بين السرد الشخصي من جهة والسرد الموضوعي من جهة أخرى، لتغني تجربة القراءة بتعدد زوايا النظر ومواقع الحكم.
فإلى جانب نصوص كالجدران العازلة والجسور التجارية التي قارب من خلالها حسين موضوعات إنسانية وسياسية كالعنصرية والشعبوية مقاربة فلسفية موضوعية تتوخى التفكيك والتحليل وإعادة التركيب للوصول إلى خلاصات يمكن تعميمها، كانت هناك نصوص كـ"من أنت أيها الكاتب" و"الأديب في المنفى" خصصها للبوح الصارخ عن أفكاره وآرائه ومشاعره، ومعاناته الشخصية مذ وُلدَ كرديا في سوريا ونشأ في مؤسسات دأب النظام السياسي في البلاد لجعلها كارهة وطاردة للآخر على مر عقود، مع حالة من الاغتراب بدأت في الطفولة واستمرت مع الشباب وظلت تطارد أديبنا إلى اليوم في منفاه الاختياري في بريطانيا.
إن الموضوعي والعام هنا لا يمكن فصلهما عن الذاتي والشخصي، تعالق أبدي فرضته نعمة أو نقمة الاغتراب لتجعل من الكتابة عن الذات كتابة عن الآخر بالضرورة، أو بتعبير حسين في حديثه للجزيرة نت: "تتحول الشهادة الشخصية إلى تجربة للانغماس في أعماق الذات والآخر معا".
وعن التجديد الأسلوبي في السيرة، يقول حسين: "أردت الخروج عن النمط التقليدي في تحقيب السيرة، وتأطيرها بأطر زمانية أو مكانية بعينها، كما أردت أن تحمل الحكايات التي أوردها جوانب من رؤاي وأفكاري وما قد يوصف بأنه تفلسف يسِم بعض الفصول والحكايات، لأن الحكايات والأفكار تتداخل وتشكّل شخصيتنا وتظهرنا على ما نحن عليه وما نمضي لنصيره في غدنا القريب".
ويضيف: "حاولت الدمج بين الشخصي والعام، بين التجارب الشخصية والأفكار التي تأتي مجردة تفكك ظواهر أحكي بعض أوجهها في حكايات حدثت معي أو كنت شاهدا عليها، بحيث الشهادة الشخصية تتحول إلى تجربة للانغماس في أعماق الذات والآخر معا، وهي محاولة أردت من خلالها الخروج على مألوف السيرة إلى منطقة أخرى تقترب من الفكر والفلسفة والرواية والنقد".
وهيثم حسين روائي وناقد ومترجم سوري، من مواليد بلدة عامودا (1978) في محافظة الحسكة، صدر له حتى الآن مجموعة من الأعمال الروائية والنقدية والترجمات، كان أبرزها رواية "عشبة ضارة في الفردوس"، وكتاب "الرواية بين التلغيم والتلغيز" في النقد الروائي، ومجموعة مسرحيات "من يقتل ممو" في الترجمة.