المزاوجة بين الواقع والفانتازيا.. الواقعية السحرية في الرواية العربية
2023-04-09
غزة(الاتجاه الديمقراطي)
في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، شكلت مجموعة من أدباء أميركا اللاتينية نقلة نوعية في الإبداع الروائي عندما أطلقوا العنان للجنون والخيال الأدبي ليكتبوا روائع "الواقعية السحرية" التي تحدت قواعد الكتابة التقليدية، وحازت شهرة عالمية بفضل الترجمة والرحلات والمنافي.
ظهر مصطلح "الواقعية السحرية" في ذلك الوقت، حيث جعلت "غرابة" جغرافيا أميركا اللاتينية وخطورة تجارب شعبها من المستحيل تقريبا على أي مراقب فصل الخيال عن الواقع، وتجاور الخيال الفانتازي والأساطير مع الأنشطة اليومية والعادية، وبعد نجاح "100 عام من العزلة" أصبحت الواقعية السحرية في رأي النقاد في أوروبا والولايات المتحدة مكونا أساسيا لا غنى عنه لثقافة أميركا اللاتينية.
لكن الواقعية السحرية لم تكن أبدا بعيدة عن التراث العربي، بدءا من قصص "ألف ليلة وليلة" الأسطورية والحكايات الشفهية المتوارثة بين الأجيال وحواديت الأمهات والجدات؛ إذ كانت العجائبية وعوالم السحر الممتزجة بالفولكلور الشعبي عنصرا أساسيا في كتابات عربية، "حيث الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه"، كما يقول الروائي خورخي لويس بورخيس.
وفي كتابه "الواقعية السحرية في الرواية العربية"، يقول الأكاديمي والمؤلف حامد أبو أحمد عميد كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر سابقا إن الواقعية السحرية بمفهومها الحديث تقوم على 3 ارتباطات أساسية: العجائبي والأسطوري والسيريالي، وهذه كلها ترتبط بتطورات الفن الحديث؛ فالفن الروائي فن معقد متشابك يغور في أعماق النفس كاشفا عن الخبايا التي تنطوي عليها حياة الإنسان. وكتّاب "الواقعية السحرية" من أكثر الأدباء عمقا وقدرة على إقامة بناء حديث معقد، لكن الفن الأدبي نفسه سهل التناول ويجذب القارئ.
تيجان ملوك حمير وعجائب الهند
في مقدمته لتحقيق كتاب "التيجان في ملوك حمير"، يقول الأديب اليمني الراحل عبد العزيز المقالح إن الجانب التاريخي أو الأسطوري من الكتاب هو الذي يشوق الباحثين والأدباء، وذلك لأن الأساطير أصبحت هدفا في ذاتها، وأضحت قيمة أدبية وفنية وإنسانية.
والتيجان هو كتاب عن سيرة وقصص ملوك مملكة حمير رواها محمد عبد الملك بن هشام في القرن الثالث الهجري أو 14 الميلادي، ويشتمل الكتاب على قصص سحرية عديدة، منها حديث القمر، وقوله للنعمان بن يعفر "أبكاني تقلب الدهر بأهله، ولن ينجو من غدر هذه الدنيا وعثراتها شيء في الأرض ولا في السماء"، وقصة اكتشاف عالم جديد، وقصة التنين، وغيرها من القصص الأسطورية، وقد جعل الكتاب أم بلقيس ملكة سبأ من الجن.
ويقول المقالح إن حكايات الكتاب تتحقق فيها كل شروط الواقعية السحرية، ولو أن ماركيز أو غيره من كتاب هذا التيار قرأ "التيجان" لقال فيه مثلما قال عندما قرأ أول فقرة من رواية المسخ لكافكا، التي تقول إن بطل الرواية استيقظ من نومه ذات صباح إثر حلم مزعج فوجد نفسه في سريره وقد تحول إلى حشرة هائلة، وفي اليوم التالي كتب ماركيز أول قصة له تأثرا بكافكا.
وفي كتاب تراثي آخر منسوب للمؤلف والقبطان الرحالة الهندي المسلم بزرك بن شهريار "عجائب الهند بره وبحره وجزايره"، يصعب حصر العجائب؛ فالغرقى ينقلهم طير عظيم، والسمكة تكون امرأة أو العكس، والسلحفاء تتحول إلى جزيرة يمشي فوقها البشر الذين خرجوا من السفينة، والسمك المطبوخ تدل عظامه وغضاريفه على أن أصله من البشر، والحيات نظرتها وحدها تقتل، والغرام يحدث بين قردة وبحار، وقصص عديدة عن سوق الجن وطائر السمندل الأسطوري وغيرها.
ويقول المؤلف أبو أحمد أن الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس استفاد من أمثال هذه الكتب في كل أعماله، وكتب "كتاب الكائنات الخيالية" الذي جمع فيه من كل ثقافات العالم، بما في ذلك أساطير اليونان وفرس البحر والأفعوان وطائر الفينيق (من أساطير العرب) والتنين وأبو الهول والديك السماوي والحوريات، وغير ذلك من المخلوقات المتخيلة التي تحظى المنطقة العربية والإسلامية بعدد كبير منها.
ويرى المؤلف -الحاصل على دكتوراه الأدب الإسباني من جامعة مدريد- أن المخيلة العربية استطاعت أن تبتدع فنونا كثيرة من الحكي في السير الشعبية والتراجم وغيرها من الكتب، مثل الرحلات والأسفار وكتب التسلية والسمر، بل والكتب التاريخية نفسها، وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن ذلك فقال "وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخاف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها".
ولذا رأى ابن خلدون أن من ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل؛ مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي وغيرهم.
الرواية العربية المعاصرة
ويورد الراحل أبو أحمد -الذي ترجم روائع الأدب الإسباني للعربية، ومنها أعمال كاميلو خوسيه ثيلا وماريو بارغاس يوسا- أمثلة للواقعية السحرية في الأدب العربي الحديث، مثل رواية "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ، ورواية "الشطار" لخيري شلبي، و"الغجرية ويوسف المخزنجي" لإدوار الخراط، و"عاشق الحي" ليوسف أبو رية، ورواية "عبد الله يقرأ طول الليل وبشرى تكتب طول الليل" لمحمد خيري حلمي، فضلا عن نماذج للواقعية السحرية في القصة القصيرة كما في "كشك الموسيقى" لسعيد الكفراوي و"قرن غزال" لخيري عبد الجواد.
ويقول المؤلف إنه قبل حصول الأديب المصري نجيب محفوظ على جائزة نوبل بعام تقريبا أجرى معه حوارا سأله فيه إن كان قرأ "مائة عام من العزلة" لماركيز؟ فأجاب محفوظ بأنه قرأها وقرأ "خريف البطريرك"، وعقب محفوظ بأن الواقعية السحرية جزء من الخرافة التي هي بدورها جزء من الحياة البشرية، ورغم تحفظ محفوظ على هذا التيار نظريا فإنه تأثر بالليالي العربية وبأحداثها السحرية، كما يقول أبو أحمد.
وفي قراءته لرواية "الغجرية ويوسف المخزنجي" لإدوار الخراط، التي يجمع الروائي فيها بين الواقعي والسحري والتاريخي والأسطوري في تداخل وانفصال وفوضى عارمة، ناقش أبو أحمد التحول من الواقع التاريخي للعالم السحري عندما يندفع المخزنجي بطل الرواية إلى رأس الجسر الحجري الداخل إلى قلب النيل وينادي جنية النيل التي لا تستجيب لندائه، لكنها تنتظره حتى تأتيه على هيئة بشرية تخلق أجواء من التوهم والشك والخرافة.
ورغم أن ذلك التيار الأدبي ينحو باتجاه العجائبية والسحرية فإنه ينبغي أن يستند إلى الواقع، كما ينقل أبو أحمد عن أديب نوبل الكولومبي ماركيز، فلا يمكن أن يتخيل المرء أو يخترع كل ما يعن له من دون ضوابط لأن المسألة عندئذ تتحول إلى نوع من الأكاذيب، والأكاذيب في الأدب أكثر خطورة منها في الحياة الواقعية.
ويمكن للكاتب أن يزيح مساحة العقل بشرط ألا يقع في الفوضى، أي في اللاعقلانية المطلقة، كما ينقل المؤلف عن ماركيز الذي يقول "أعتقد أن الخيال ما هو إلا أداة لتشكيل الواقع، لكن مصدر الخلق أولا وأخيرا هو دائما الواقع، أما الفانتازيا أو الاختراع الخالص والبسيط على طريقة والت ديزني فهو أكثر الأشياء إثارة لكراهيتي".
وليس معنى ذلك أن الجمع بين الواقع والسحر أو الفانتازيا ينتج بشكل آلي واقعية سحرية، لأن هناك شروطا أخرى كثيرة لا بد أن تتحقق كي تؤدي إلى إبداع قصصي حقيقي، من ذلك التناول الشعري للواقع، واستخدام لغة تتواءم مع هذا الواقع السحري وتتناغم معه، والموهبة والوهج الفني، ومعرفة استخدام التقنيات الجديدة في فن القص، واستيعاب الأعمال الإبداعية البارزة، وانسجام الرؤية بما يتفق مع جوهر الفن، وغير ذلك من شروط وظواهر لا تتحقق إلا عند كاتب مميز.