قدم المثقفون الفلسطينييون رغم أقسى ظروف القمع، والأسر الثقافي، نموذجاً تاريخياً للثقافة، بكل ما فيها من وعي وصمود. تلك الحالة التي لم تكن أبداً ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية.
فقد ازدهر الشعر الوطني الفلسطيني بعد انطلاق المقاومة الفلسطينية، وانبعاث الثورة الفلسطينية في منتصف الستينات.
ومع ظهور بوادر الجشع الصهيوني للاستيلاء على الأرض الفلسطينية خلال أربعينيات القرن الماضي؛ ومع الشعور بالخطرالذي بات يقلق بال الفلسطينيين- أصحاب الأرض؛ تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية، وتبلور وعي وطني تلازم مع ظهور ثلة من المثقفين أخذوا على عاتقهم النضال بالكلمة لتعزيز روح الصمود، وصيانة الهوية الوطنية من خطر الاندثار.
وتمكن شعراء وأدباء ومهتمون في مجال الثقافة في تلك الفترة من تثبيت هذه الهوية على مستوى العالم، واستجابوا لنداء المرحلة، ولمشاعر غَزَلَتها ظروف الاحتلال الذي صار واقعاً على الأرض بفعل عوامل لا تتصل بالفلسطينيين. أهم شعراء تلك الفترة:
من أبرز ممثلي ذلك الجيل: عبد الرحيم محمود، عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، إبراهيم طوقان، هارون هاشم رشيد، راشد حسين، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، سالم جبران، خليل زقطان، معين بسيسو، عصام العباسي، حنا أبو حنا، شكيب جهشان، فدوى طوقان، عز الدين المناصرة، أحمد دحبور، خالد أبو خالد، عصام ترشحاني، عادل أديب آغا، محمد حسيب القاضي، الذين نظموا أشعاراً لم تلهب مشاعر من اكتوى بنار الاحتلال فحسب، بل لامست شغف الملايين من التواقين للحرية في العالم والذين أطلق عليهم "شعراء المقاومة"؛ فنجد السجون قد اكتظت بالمقاومين الذين أخذوا يصوغون تجربة جديدة وراء القضبان، ويصنعون بها إرثاً جديداً للمقاومة، ويسطرون أروع ملاحم المواجهة بين "السجان" و"السجين" المقاوم؛ فأخذت كثير من الأشعار بل والأعمال الفنية المقاومة تخرج إلى النور من ظلام السجن، وذلك قبل خروج "المقاوم".
وكان المقاومون في ذلك الوقت يهربون أعمالهم بالعديد من الوسائل التي كانت تتحدى كل جبروت السجن والسجان. وأطلق على هذا النوع من الإبداعات الأدبية "أدب السجون"، وصنف جزء منها تحت اسم "شعر السجون". شعر المقاومة:
اتسم الشعر في هذه المرحلة بالبعد الإنساني والاجتماعي ومعرفة الآخر، وهو ما أطلق عليه "شعر المقاومة". ويمكن تعريف شعر المقاومة بأنه تلك الحالة التي يعبر فيها الشاعر بعمق وأصالة عن ذاته الواعية لهويتها الثقافية والمتطلعة إلى حريتها الحقيقية في مواجهة المعتدي في أي صورة من صوره.
ومثل هذا النوع من المقاومة، يتخذ شكله الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي، ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل أحدهما الآخر، الأرض الخصبة التي تستولد المقاومة المسلحة وتحضنها وتضمن استمرار مسيرتها وتحيطها بالضمانات كما في قصيدة توفيق زياد "بأسناني":
بِأَسْنَانِي
سَأَحْمِي كُلَّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَى وَطَنِي
بِأَسْنَانِي.
وَلَنْ أَرْضَى بَدِيلاً عَنْهُ
لَوْ عُلِّقْتُ
مِنْ شِرْيَانِ شِرْيَانِي.
أَنَا بَاقٍ
أَسِيرَ مَحَبَّتِي .. لِسِياجِ دَارِي،
لِلنَّدَى .. لِلزَنْبَقِ الحَانِي
أَنَا بَاقٍ
وَلَنْ تَقْوَى عَلَيَّ
جَمِيعُ صُلْبَانِي
أَنَا بَاقٍ
لآخُذُكُم .. وآخُذُكُمْ .. وَآخُذُكُمْ
بِأَحْضَانِي
بِأَسْنَانِي،
سَأَحْمِي كُلَّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَى وَطَنِي
بِأَسْنَانِي.
ومن هنا، فإن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها.
ولكن ما يميز الشعر المقاوم في فلسطين المحتلة منذ 1948 حتى 1968، هو ظروفه القاسية البالغة الشراسة، التي تحداها وعاشها. الغربة والحنين:
تميزت موضوعات ومضامين نصوص الشعر الفلسطيني خلال تلك الفترة بالحنين إلى الوطن الضائع، وتصوير المأساة، ووصف المعاناة، ورسم الخلاص الفلسطيني، في صور عاطفية، فالحنين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالغربة في الشعر الفلسطيني؛ فعندما يبتعد الإنسان عن مكان ما، يشعر بحنين إليه، ويشتاق لكل ما فيه، فقد تذكرت فدوى طوقان العيد في يافا، وشدها الحنين والألم، فهناك كانت تلعب بأرجوحتها، وتمسك الجديلة بالعقدة الحمراء، وتركض في البلد الحبيب فرحة مبتهجة، فقد تمسك بذكرياتها وأيامها الماضية باكية متألمة، فكل شيء تغير ولم يعد لها سوى الحزن والذكريات المرة.
أترى ذكرت مباهج الأعياد في يافا الجميلة؟
أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة؟
إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير
والعقدة الحمراء قد رفّت على الرأس الصغير
والشعر منسدل على الكتفين، محلول الجديلة؟
إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب
تتراكضين مع اللذات بموكب فرح طروب
طورا إلى أرجوحة نُصبت هناك على الرمال
طورا إلى ظل المغارس في كنوز البرتقال
والعيد يملأ جو كن بروحه المرح اللعوب؟
واليوم ماذا اليوم غير الذكريات ونارها؟
واليوم، ماذا غير قصة بؤسكنّ وعارها
لا الدار دار لا ولا كالأمس، هذا العيد عيد
وفي المنفى حمل الفلسطيني حلمه على ظهره، وتوزعت به جغرافيا الألم، ومنفى القهر، لعلّ في لهفة الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" خير شاهد وهو لا يتخيّل الحياة بعيداً عن فلسطين؛ ما يزيد الحسرة ويضاعف اللهفة، حيث أنه القريب البعيد، والساكن الشريد، ولصدق هذه المشاعر، وانسياب كلماته العذبة، وتصويراته الرقيقة الحزينة، أصبحت هذه الأبيات من أشهر ما قيل في الحنين إلى الوطن، والاشتياق له:
فلســطينُ الحبيبةُ... كيفَ أحــيا
بعيداً عنْ ســهولكِ والهضابِ؟!
تُناديني الســُّـــفوحُ مخضبات
وفي الآفــاقِ آثارُ الخضــابِ
ُناديني الشواطئ باكياتٍ
وفي سـمعِ الزَّمانِ صدى انتحابِ
تُناديني الجداولُ شـــــارداتٍ
تســــير ُ غريبة ً دونَ اغترابِ
ُتنادينــي مدائــِنُكِ اليتــامى
تُنـــــاديني قراكِ معَ القبابِ
يتضح من هذه الأبيات، كم هي اللّهفة على الوطن الذي غاب عن العين، وما غاب عن القلب، وكيف يصبح الوطن أجمل القصائد وأغلى الأحبة.
هذا الكم الهائل من الحنين الشعري، لم ينضب عند الأجيال التي وُلدت في الشتات، ومنافي الاغتراب، بل إنّ الحكاية ترتسم في أشعارهم من جديد ويتابعون مسيرة الحنين إلى الوطن.