تذكرنا رواية "شط الأرواح" للكاتبة التونسية آمنة الرميلي الصادرة عن دار محمد علي، تونس، في كثير من فصولها، بـ “جحيم" دانتي حيث يرتفع نحيب المعذبين وتأوهاتهم في ردهة الجحيم، كما ترتفع صرخاتهم المزعجة، وصيحات غضبهم وحشرجة أصواتهم المختنقة المبحوحة الصادرة من أعماق القلوب، صاعدة إلى الفضاء الموحش الذي لا نجم فيه، وهي تفصح، كما جاء في "جحيم" دانتي، عن آلامهم بكل لسان، باحثين بعيونهم المحملقة عن عزاءٍ لا يكون.
جحيم دانتي هو حال عائلات فلسطينية فجعنا بنحيبها صباحاً، نحيب وغصة بالقلب لحالنا الذي وصلنا إليه، ولحال هذه العائلات التي فارقت أبناءها للأبد، حالة من الأسى خيمت على قلوب أمهات عشرات بل مئات من هاجروا بحثاً عن وطنٍ يؤمن الحياة الكريمة لأبنائه المكلومين المحاصرين من الاحتلال والمحاصرين من أبناء جلدتنا.
عادت قوارب الموت من جديد لتخطف عددا من الشباب الفلسطيني في أسوأ ظاهرة يعانيها الشعب وهي عدم اكتراث صانع القرار لما يحدث بالقطاع، وعدم البحث عن مسببات هجرة هؤلاء الشباب أو الدوافع التي تجعلهم يخرجون من القطاع تجاه موت محتوم.
لا أحد يرغب بالهجرة عادةً، ولكن الظروف والتحديات وفقدان الأمل هي من تدفع الشباب للهجرة وشبابنا الفلسطيني لديه عدد وافر من التحديات أهمها الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية، وعدم وجود خطط مستقبلية للتغيير.
بينما تعتمد لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية أنّ فئة الشباب هم الأفراد ضمن الفئة العمرية ما بين (18-40) سنة، وتقسم اللجنة الفئة نفسها إلى ثلاث مستويات، الأوّل من (18-22) سنة، الثاني من (23-30) سنة، الثالث من (31-40) سنة، ليظهر أنّ حضور الشباب في سجل الناخبين النهائي عام 2021 بلغ نسبته 56 بالمئة، موزّعًا بين المستويات الثلاثة أعلاه. البطالة والفقر الأعلى عالمياً
بلغ معدل البطالة بين الشباب الفلسطيني (19-29) سنة الخريجين من حملة شهادة الدبلوم المتوسط فأعلى 53% (ويشكلون ما نسبتهم 27% من اجمالي المتعطلين عن العمل)، أما على مستوى الجنس فقد بلغ 66% للإناث مقابل 39% بين الذكور، أما على مستوى المنطقة فقد بلغ معدل البطالة للشباب الخريجين في الضفة الغربية 36% مقابل 74% في قطاع غزة.
ما يقارب ثلث السكان (29.2%) في فلسطين يعانون من الفقر، وبلغت نسبة الفقر في قطاع غزة (53%) بينما بلغت في الضفة الغربية (13.9%). ويعاني حوالي ثلث سكان قطاع غزة (33.7%) من الفقر المدقع مقابل (5.8%) من سكان الضفة الغربية. الظروف السياسية والانقسام
أثر تعطل الحياة الديمقراطية على الشباب وأدى لفقدان الأمل لدى الشباب بالتغيير، كما انعكست الظروف الاقتصادية والسياسية وتراكم الأزمات في قطاع غزة لتطال الصحة والتعليم على واقع الشباب، وهذا أنتج ارتفاع لمعدلات الهجرة والادمان.
حيث لم يشارك الشباب في قطاع غزة من عمرهم 33 عام في أي عملية ديمقراطية، إذا أنها تعطلت في قطاع غزة منذ 2007، وهذا التعطيل طال انتخابات مجالس الطلاب بالجامعات والنقابات والمجالس المحلية وصولا للانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني.
ويستبعد النظام الأساسي الفلسطيني الشباب من إمكانية الترشح للانتخابات الرئاسية، فقد نصت الفقرة 2 من المادة 12 من قانون الانتخابات رقم 9 لسنة 2005 على ضرورة أن يكون المرشح للانتخابات الرئاسية ويحرم غالبيتهم من حقهم بالترشح لعضوية المجلس التشريعي. ارتفاع الضرائب ومحدودية الدخل
على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة إلا أن حكومة الأمر الواقع لا زالت تزيد الضرائب، حيث فرضت حكومة حماس ضرائب جديدة على الجلباب والجينز بقيمة 10 شواكل على القطعة الواحدة، والجلباب والعباية 10 شواكل على القطعة الواحدة، الى جانب الزيادة على البضائع المتعلقة بالمياه المستوردة والشكولاتة وبعض المنتجات الأخرى.
وعلى الرغم من حالة السخط والغضب لدى التجار والمواطنين في غزة، إلا ان القرار أصبح نافذاً ليتحمل المواطن ضريبة الحرب على أوكرانيا، والغلاء العالمي وضريبة صموده امام الاحتلال وممارساته، هذا الغلاء في ظل محدودية فرص العمل او العمل برواتب زهيدة أثر بشكل سلبي على الشباب تجاه زيادة الإحباط ومحاولة الهروب من الموت البطيء للنجاة بطريقة أسرع.
قانون وتشريعات غير مطبقة على الرغم وجود قوانين دولية ومحلية تعطي الشباب حقوق مشروعة استنادا للإعلان العالمي لحقوق الانسان الموقعة عليه السلطة الفلسطينية، وقانون الشباب الذي ينص في مادته الخاصة على الالتزامات تجاه الشباب وهي حق الشباب بالمشاركة السياسية وممارسه حقهم بالانتخاب والترشح، وتوفير تأمين صحي مجاني للطلبة والخريجين المعطلين عن العمل، دعم المشاريع الشبابية وتشجيع المشروعات الصغيرة واعفاءها من الضريبة بالسنة الأولى وغيرها من البنود، تبقى هذه البنود حبراُ على ورق في ظل عدم تطبيق هذه القوانين وتسخيرها لخدمة الشباب.
هذه الفجوة أثرت بشكل سلبي على الشباب وأدت إلى فقدان الأمل بكل المنظومة البالية، فإذا كانت جهات إنفاذ القانون لا توفي باستحقاقاتها تجاه الشباب، فماذا تركوا للقطاع الخاص وغيره؟ .. الذين يتفردون أيضاً بالشباب، من حيث عدم تطبيق قانون العمل والحد الأدنى للأجور وغيره.
غياب الشباب عن مراكز صنع القرار تغيب فئة الشباب في فلسطين عن مراكز صنع القرار، إذا أشار الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في آخر تقرير له ذي صلة عام 2019 أنّ الشباب العاملين في مراكز صنع القرار لا تتجاوز نسبتهم 11 بالمئة، بينما تشكل فئة الشباب أكثر من خمس تعداد المجتمع الفلسطيني بنحو 22 بالمئة إجمالي السكان في فلسطين منتصف العام 2021، وعليه فإنّ مقارنة الخريطة السياسية بالخريطة الديمغرافية تُظهر جليًا حجم الفجوة، ما يجعل الحاجة إلى تعزيز دور الشباب في صنع القرار ضرورة مُلحة؛ لضمان تمثيل عادل لجميع الفئات العمرية في النظام السياسي الفلسطيني ككل، وفي مراكز صنع القرار على وجه الخصوص.
الاحتلال ومصادرة حرية التنقل والسفر يعيش الشباب الفلسطيني أوضاعًا كارثية نتيجة سياسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية بحق الشعب الفلسطيني عمومًا، حيث تتنوع أنماط الانتهاكات الإسرائيلية وفق المنطقة الجغرافية؛ وقد عايش الشباب في قطاع غزة عشرات الاعتداءات وعاني ويلات القصف والحروب عدة مرات فهدمت بيوتهم وبترت اطرافهم وشطبت بعض عائلاتهم من السجل المدني.
إضافةً إلى فرض الاحتلال حصارًا مشددًا ضد قطاع غزة منذ عام 2007م؛ ويتجلى هذا الحصار بفرض قيود واسعة على الحركة التنقل بين قطاع غزة والضفة الغربية وإسرائيل، ويُعد الشباب هم الأكثر تأثرًا في هذه القيود لأنه يستثنى منها بشكل جزئي الفئات العمرية الأكبر سنًا مقابل تشديدها بحق الشباب بذرائع أمنية، وبالتالي الشباب الغزي محرومٌ من العمل بالشق الاخر من الوطن ومحرومٌ من حقه بالتعليم بالجامعات هناك، أو حضور الندوات والأنشطة والفعاليات والتدريبات التي تطور وتنمي مهاراتهم. خلاصة:
كل الأسباب أعلاه أفقدت الشباب الأمل بالتغيير وذهبت بهم تجاه الأسوأ، بدءًا من الهجرة ووصولاً للإدمان الذي دق ناقوس الخطر، وعلى الرغم من عدم نشر أرقام وإحصائيات واضحة عن الإدمان والنسب في قطاع غزة ولكن حسب تصريحات صادرة عن وزارة الداخلية فإن 80% من المدمنين هم من الشباب ضمن الفئة العمرية من 18-35 عام، وهذا انعكس على ازدياد العنف بأشكاله وبالأخص العنف المبني على النوع الاجتماعي وازدياد معدلات الطلاق.
الاخبار المؤسفة التي نسمعها من فترة لأخرى حول موت أعداد كبيرة من الشباب الفلسطيني هي نتيجة لظروف كارثية أفرزها الانقسام وتبعاته، وهذا يتطلب وجود اشخاص وطنيين بعيداً عن منتفعي الانقسام، أشخاص يقلبون الطاولة على الانقسام تجاه وضع خطة وطنية شاملة للشباب، تعتمد مبدأ المشاركة في تحديد الاحتياجات والتخطيط ومن ثم التنفيذ، وتعمل على دعم المشاريع الشبابية الفردية والجماعية، ورفع القدرات الشبابية الاجتماعية والاقتصادية، وتقديم المساندة والإرشاد اللازم لهم وعلى الشباب ايضاً تشكيل لوبيات ضاغطة على صانع القرار لتنفيذ القوانين والقرارات المتعلقة بهم.
واخيراً هل سيبقى هذا الحدث عابراً كما غيره لدى صانع القرار وتضاف هذه الأسماء لسابقاتها أو سيبدأ العمل من اجل تغيير هذا الواقع المأساوي، لواقع تعزز فيه القيادة صمود أبناء شعبنا من خلال توفير مقومات الحياة الكريمة واشراك الشباب الى جانب انهاء الانقسام البغيض البوابة الأولى لحل غالبية أزمات الشباب.