صرَّح (هنري كيسنجر) وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً، وأحد أهم قادة الدبلوماسية الأمريكية في العالم في العقود الأخيرة، قائلاً: "دولة إسرائيل لا تملك سياسة خارجية، فقط يوجد لها سياسة داخلية".
ما يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل بنظامها الحالي وسياستها العامة وإحكام سيطرة اليمين واليمين المتطرف على سياستها؛ أصبحت تتعامل مع الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي كجزء من سياستها الداخلية، ويخضع الموقف منها لموازين القوى الداخلية ومتطلبات الحكم وتشكيل الائتلافات الحكومية، للوصول للبرلمان (الكنيست). وعلى الرغم من ذلك، فحتى لو استطاعت إسرائيل بنظامها الاحتلالي الحالي وسياستها القمعية تجاه الشعب الفلسطيني، وبتجاهلها للحقوق المشروعة للفلسطينيين، البقاءَ لجيل أو جيلين آخرين فإنها لن تتمكن من الاستمرار بذلك ولا حتى القيام به على أكمل وجه، لأنها ستبقى عاجزة عن تكوين غاية أخلاقية لبقاء احتلالها لشعب آخر، ولن يكون بمقدورها تشكيل هيكل تربوي تاريخي ينظِّم علاقتها بشكل طبيعي مع العالم، من أجل أن يسمح بإعطائها مبرراً للحياة والاستمرار على هذا النحو.
فالمنطق الآخذ في الاتساع والترسُّخ في المحافل الدولية والمؤسسات الحقوقية وجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان الرسمية منها والأهلية، يشير إلى أن الاستمرار بتجاهل الصراع وإخضاعه للحسابات الداخلية والتعامل بهذه العنجهية وتجاوزها الفجّ لكل الاتفاقيات الموقعة والمواثيق الدولية الخاصة بهذا الشأن، سيقود في نهاية المطاف لدولة ثنائية القومية مفروضة بشروط الأمر الواقع على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، الأمر الذي ينبئ بمرحلة جديدة من الصراع ونوع آخر من السيطرة، لأن دولةً من هذا النوع إن قامت فلن تكون فيها المواطنة قاعدة العلاقة بين مواطنيها، ولن تشكل أساساً في نظامها السياسي، لأن الصهيونية ودولة الاحتلال تسعى جاهدةً من أجل الإبقاء على دولة الاحتلال يهوديةً وديمقراطيةً، ولهذا فإن الفلسطينيين لن يحظوا فيها بمساواة قومية، ولن يكونوا جزءاً أصيلاً من نظامها السياسي الديمقراطي المفترض، ولهذا فلن يستطيعوا الاعتراف بصهيونية ويهودية وديمقراطية هذه الدولة، والنتيجة الحتمية لذلك الفصل العنصري الموجَّه ضد قومية ترى في نفسها -وبحق- أنها أصلانية تقاتل لإقامة دولة على ما تبقى لها من أرض سُلبت منها استناداً لمقررات استعمارية فُرِضَتْ عليها، وأيضاً لا يمكن أن يكون هناك مستقبل لهذه الدولة الثنائية القومية، حتى لو أوصلتنا لها الظروف والمتغيرات والإجراءات الاحتلالية على الأرض بقيادة اليمين المتطرِّف، كونها لن تكون قادرة كديمقراطية على تشكيل مجتمع إنساني يعطي أملاً في الاستمرار والحياة، وبالتالي يعطي فرصة حقيقية لتجاوز صراع مَرّ على ولادته بين العرب الفلسطينيين والإسرائيليين أكثر من 130 عاماً.
واستناداً لما تقدَّم فإن فرصة التعايش بين القومية العربية الفلسطينية والقومية اليهودية -إن جاز لنا اعتبار اليهودية قومية في إطار دولة ثنائية القومية- غير واردٍ في الوقت الحالي، كون القوميتين ستكونان متعارضتين ومتناقضتين، ولن تصلا للاندماج في أي إطار سياسي أو ثقافي أو اجتماعي أو حتى اقتصادي ولا في أي ظرف من الظروف.
فالإجراءات الاحتلالية المتعمَّدة من حصار مالي تتعرَّض له السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ضغط سياسي ممثَّل في إجراءات يومية قمعية يتعرَّض لها أبناء شعبنا من قتل ونهب وسلب لأرض وحقوق وممتلكات الفلسطينيين، وتزايد ملحوظ لمصادرة الأراضي لأغراض أمنية واقتصادية وارتفاع في مستويات البناء الاستيطاني الاستعماري على أراضي الضفة الغربية، بالإضافة لتعاظُم قوى اليمين في داخل دولة الاحتلال، والمساندة لهذه الإجراءات والمنادية بها وبانهاء مشروع حل الدولتين، أضِفْ إلى ذلك الهجوم المباشر والصريح من قادة عسكريين واتفاقهم على ضرورة استباحة مناطق السلطة الفلسطينية واتهامها بأنها غير قادرة على الحكم والسيطرة، كما صرَّح بذلك مؤخراً قائد أركان دولة الاحتلال (أخيف كوخافي) رغبةً منه في إرضاء اليمين المتطرف، وتبريراً لأعمال جيش الاحتلال، الأمر الذي سيقود إلى واقع حتمي لا يمكن السيطرة عليه من طرف واحد، حتى لو امتلك ذلك الطرف كل القوى المطلوبة لذلك.
الأمر الذي يعني أن كل المفاوضات والاتجاه نحو فتح أفق سياسي أمام الفلسطينيين قائم على ضمان اقتراح إسرائيل للشرعية الدولية والاتفاقات الموقَّعة بين الطرفين تُفضي لنتائج مرضية يكون أساسها حلّ الصراع على قاعدة دولتين لشعبين، والذي ما زال قائماً وفقاً لكل المواثيق الدولية على الرغم من تجاهل إسرائيل المحتلة لذلك على الأرض، واستمرارها في محو الحدود الفاصلة ما بين الدولة الفلسطينية القادمة ودولة الاحتلال بإجراءات قمعية زاحفة ستقود بالتأكيد إلى بدائل وخيارات يُعيد فيها، ومن خلالها، الاحتلال تكوين ذاته من جديد على الأرض، وسيُنهي حل الدولتين وتتفكَّك السلطة الوطنية الفلسطينية وتنشأ مكانها الإدارة المدنية والحكم العسكري، الذي ما زال يعمل، وعليه لجم أطماع اليمين ورده عن رغباته في ابتلاع ما تبقى من الأرض للفلسطينيين التي ستقوم عليها دولتهم المستقلة في حدود الرابع من حزيران للعام 67، وإلا فإن هذا الابتلاع سيكون شوكةً في حلق المشروع الصهيوني إلى الأبد، ولن ينهي الصراع كما يحلمون.
إن التمسك بالشرعية الدولية ومقرراتها، بالإضافة للعمل الحثيث على إبقاء المجتمع الدولي بكافة هيئاته ودوله يميل لصالح خيار حل الدولتين، والمواجهة على الأرض بكافة الوسائل المشروعة لخدمة هذا الهدف، وجهود العمل الدبلوماسي في سبيل تحقيق الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية يحمي حقوق شعبنا ويضمن حق تقرير المصير مستقلاً حتى لو رفضته دولة الاحتلال، وكل ذلك لن يتحقق قبل استكمال الجهود في الوحدة الوطنية وتحديد أهداف الفلسطينيين بشكل موحَّد، والعمل وفقاً للظروف التي تسمح بها الساحة الدولية من خلال التكافل في خلق عمل ناجح بين الظروف الموضوعية والذاتية لخدمة المصالح العليا التي يناضل من أجلها شعبنا الفلسطيني، وهذا من الممكن تحقيقه وبشكل سريع، كون هناك أصوات تنادي بضرورة السعي لحل الدولتين وتحقيق الانفصال عن الفلسطينيين داخل المستويات السياسية والحزبية في إسرائيل. ومؤخراً أو من خلال مقالة لها في جريدة (يديعوت أحرنوت) قالت (تسيفي ليفني) إحدى أبرز السياسيين في اليمين، والمحسوبة على جناح العمل فيه بأن "من يهمه رؤية الصهيونية بدولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية وآمنة في أرض إسرائيل، يفهم أن تحقيق ذلك بحاجة للحفاظ على أغلبية يهودية، لأجل ذلك نحن بحاجة للانفصال عن الفلسطينيين". ونحن أيضاً نعتقد بأن الظروف إن عملنا بها موحَّدين ستفضي إلى الانفصال عن الدولة اليهودية، لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيادية على حدود الرابع من حزيران للعام 67 وعاصمتها القدس الشرقية.