(ظريف الطول) قصة يحكيها التراث الفلسطيني
2022-07-23
غزة (الاتجاه الديمقراطي)
ترمز قصة «ظريف الطول» إلى شاب فلسطيني وهب روحه لتلك الحسناء؛ الأرض التي احتضنته ووهبته كل حبها، إنه الشاب الفارع الطول، ذو العينين السوداوين، والشعر الأسود الثائر، والجسد الحي النابض بالرجولة، ذلك الشاب الذي لم تصرفه بنات القرية كلهن عن حبه لأرضه وعشقه لها؛ إنها أرض فلسطين التي من أجلها كان يسخر كسب عرقه وتعبه في محل النجارة لشراء السلاح ويوزعه على شباب القرية لصد الاعتداءات المتكررة للعصابات الصهيونية التي تغير على القرية من وقت لآخر.
لقد كان «ظريف الطول» قوياً صارمًا، ألهب قلوب الصبايا بوسامته وخصاله النبيلة، فكانت ترتبك عيونهن حينما يستدرن ليجدن قده الفارع الممشوق أمامهن، إلا أن عينيه اللتين لم تهبا نظراته الدافئة لوجه غير وجه محبوبته، كانتا تحلقان في ملامح فلسطين وحدها؛ فلسطين الأرض، والشعب، والقضية، والمقدسات.
كم من الأمهات تمنينه زوجاً لبناتهن، فها هي أم سعيد؛ زوجة المختار، تقصد محل النجارة الذي يعمل فيه «ظريف الطول» ليصنع لها خزانة وتطلب منه أن يزينها بالورود التي تعشقها ابنتها حتى تلفت نظره إليها، وهذه أم خليل؛ زوجة خطيب القرية، تطلب منه أن يصنع لها صندوقاً خشبيًّا للملابس، ولما أنجزها طلبت من ابنتها أن تتقدم لتستلم منه الصندوق في محاولة منها لتستقر عيناه في عينيها. وخطيب القرية نفسه في خطبة الجمعة ألمح له برغبته في مصاهرته، لكن «ظريف الطول» كان ينظر نحو البعيد، ليس نحو النساء كعادة الرجال في مثل سنه، كأنه وُلد ليصنع شيئاً آخر.
في أحد الأيام، شنت إحدى العصابات الصهيونية هجومًا على القرية، واستشهد ثلاثة شبان. وفي اليوم التالي؛ إذا بـ «ظريف الطول» يغادر القرية ويغيب عنها أربعة أيام، ثم عاد في ظلمة الليل؛ كي لا يراه أحد وهو يحمل خمسة بواريد (بنادق) اشتراها بما استطاع توفيره من أجرته في محل النجارة الذي يملكه أبو حسن. بعد شهر عاودت العصابات اقتحام القرية، إلا أن البطل «ظريف الطول» كان قد وزع تلك البنادق على الأشداء من شباب القرية، فكانت المفاجأة التي لم يتوقعها المعتدون الذين فروا مدبرين بعد مواجهة دامية سقط لهم فيها ستة قتلى.
في اليوم التالي عمت الفرحة أهل القرية، ولاسيما النسوة اللواتي رحن يبعن ما يملكن من المجوهرات والذهب لشراء البنادق. وفي الليل، عادت العصابات للأخذ بالثأر. فاندلعت معركة كبيرة في كروم التفاح، واستشهد عدد كبير من أبناء القرية، مقابل عدد أكبر من أفراد العصابات. ولما اندحر المعتدون يجرون أذيال الهزيمة قام أهل القرية بحصر شهدائهم والتعرف عليهم، فلم يجدوا «ظريف الطول» بينهم، كما لم يكن من بين الأحياء.
اختفى «ظريف الطول»، فأجمع أهل القرية على قوته وجرأته وهو يقاتل المعتدين بشراسة، حتى صرع منهم أكثر من عشرين صهونيًّا، لقد كان يستخدم بندقيتين في آن واحد، وشاهدوه وهو يحمل المصابين عمار وجهاد من ساحة القتال، وأنقذ آخرين، والرصاص من فوقه كزخ المطر، ثم بعد انسحاب الصهاينة لم يظهر له أثر.
بعد خمس سنوات، أقسم إبراهيم الحلاق أنه شاهد «ظريف الطول» مع عزالدين القسام في أحراش يَعْبَد، وجهاد ابن الأرملة قال إنه رآه مع الحنيطي في درب الثوار في يافا، وثلة من أهل القرية رأوه في بورسعيد مع جول جمال، وآخرون رأوه في الكرامة على نهر الأردن يفجر دبابة، وآخرون رأوه في سوق الغرب في اجتياح بيروت، وقيل إن آخر ظهور له كان في غزة، يخرج من أحد أنفاقها ويطلق رشقة صواريخ على تل أبيب ويعود للخندق؛ هكذا أصبح «ظريف الطول» وجهاً منيرًا لكل شريف عفيف.
تكاثرت الأقاويل حول مكان وجود «ظريف الطول» وتباينت، ونُسجت الحكايات والقصص عن بطولاته، وراح الشعب الفلسطيني يجدد سيرته بوصفه أسطورة عاطفية وجدانية اجتماعية تحمل معاني الثورة والتضحية والإباء، بالإضافة إلى معانٍ أخرى ظهرت بعد نكبة فلسطين عام 1948، مثل التهجير القسري الذي عانى منه المجتمع الفلسطيني، والغربة التي تطاردهم في نومهم ويقظتهم.
وهكذا راحت حكايات «ظريف الطول» تُنقش في ذاكرة الشعب مغسولة بالدموع؛ الآباء يسردونها على الأبناء والأحفاد، فبات كل جيل يشهد «ظريف الطول» وهو يتسرب من جدار الزمن ويتجسد أمامهم بجسده المجلل برائحة الوطن، وهكذا أصبح كل فلسطيني وكل عربي حر يحدق في معالم «ظريف الطول» فيجده طودًا عظيمًا ثابتًا لا تغيره أحقاد البشر.
فإليك التحية يا «ظريف الطول»، إليك التحية منسوجة بمشاعر شعب عظيم يحمل رسالتك، وينقش على جدران أفئدته صورتك، إليك التحية وطيفك في عيوننا شعاعُ دفء تنطلق منه راية النصر الآتي بحول الله.
إليك التحية يا «ظريف الطول»، والحزن عليك لم ينته، بل سيبقى ممتزجًا بصرخات المهج حتى يتحقق الأمل؛ حتى تكتحل عين كل مرابط بتحرير فلسطين، وعودة أهلها إليها معززين مكرمين، وإقامة كيانها دولة مستقلة كاملة السيادة على تراب فلسطين؛ كل فلسطين.
وإن غدًا لناظره لقريب.