• عودة روسيا قطبا مضادا في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها
    2022-03-14
    لم يعد العالم هو نفسه بعد أن عادت روسيا قطبا مضادا مهددا للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وربما تشكل ‏قطبا جاذبا للكثير من الدول “المستحمَرة” والمستغلَة والتابعة، للخروج من فلك الولايات المتحدة، فضلا على أن ‏تكون ملاذا للشعوب المقهورة والمضطهدة في العالم بأسره. إن عودة روسيا الواثقة نحو إجبار الغرب على ‏احترامها وسماع صوتها في القضايا والصراعات الساخنة على الساحة الدولية قد يقود إلى شق طريق ملموس أمام ‏عودة هيبتها الجدية في مواجهة الغرب الرأسمالي المتوحش والجشع. ‏
    حاولت الولايات المتحدة تطويق ومحاصرة روسيا وإبعادها عن فضاء أوروربا من خلال عملائها، وحشدها ‏لقوات ومعدات حلف الناتو، بهدف تحويلها من موقع المتحدي إلى موقع التخلف والخضوع والتبعية. وربما قد يعني ‏هذا مقدمة لاحتلال روسيا، لكنه وهم سقط مع الزمن، حين حققت روسيا الإنجازات الكبرى والنوعية، على صعيد ‏صناعة الأسلحة وإعادة بناء قوة الجيش الروسي وأنعشت الاقتصاد الذي يوفر مقومات الصمود أمام الغرب. ‏خاصة بفضل قوتها الهائلة في سوق النفط والغاز والمعادن والحبوب. كل هذا أعاد الاعتبار للدولة الروسية وهيبتها ‏العالمية التي تلاشت في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسن. ‏
    من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد تيقظ مبكرا لأطماع ونوايا الولايات المتحدة وحلفائها الكبار ‏والصغار، وهذا ما عبر عنه منذ العام 2007في مؤتمر ميونخ للأمن ، حين انتقد علانية السياسات الأمريكية ‏واستراتيجية حلف الناتو عبر خلق قواعد عسكرية مدججة بالسلاح لاستهداف روسيا ومحيطها المباشر بهدف ‏تفكيكها كما فُكْك الاتحاد السوفييتي عام 1991، مؤكدا عدم قبوله المساس بوحدة أراضيه ورفضه لتموضع قوات ‏وأداوت حلف الناتو داخل الفضاء السوفييتي السابق. ‏
    مع بدء العملية الروسية في أوكرانيا بتاريخ 24شباط فبراير 2022، انتهى الزمن الذي لم يعد فيه هناك من يقول ‏للولايات المتحدة: لا، الأمر الذي ينطوي على جعل روسيا ليست دولة متحدة وحسب وإنما أصبحت قطبا مهددا ‏للولايات المتحدة ومصالحها في منطقة أروربا والعالم بأسره، فضلا عن الضعف النسبي للولايات المتحدة بعد ‏تراجعها وانسحابها من ورطة العراق وأفغانستان، وتخليها المضطرد عن حلفائها في الخليج العربي وسحبها ‏صواريخ (باترييوت) من الأراضي السعودية. بذلك يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد أعاد صناعة التاريخ ‏بوقف استباحة الأراضي الأوكرانية وكبح جماح حلف الناتو بقيادة أمريكا التي ورطت ألعوبتها الرئيس الأوكراني ‏زيلنسكي، خلال بيعه الأوهام بأن حلف الناتو سيقاتل عنه، في حين لم تدرك أمريكا أن الرئيس الروسي لا يتعاطى ‏مع الحلول الوسط التي تتعارض مع مصالح وأمن وحدود روسيا. تعود روسيا وتعيد الاعتبار لدورها التاريخي ‏والطبيعي على الساحة الدولية كقوة دولية مهاجمة، وتعيد عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء أي ما قبل انهيار الاتحاد ‏السوفييتي، بهدف صوغ العلاقات الدولية وتأطيرها وفق استراتيجية هادفة إلى بدء نهاية زمن أحادية القطبية ‏وأبدية تحكم أمريكا بمصير الشعوب والدول، وأن العالم مقبل على تغييرات محتملة للتحالفات والاستراتيجيات ‏وموازين القوى الجديدة باتجاه عودة التوازن الدولي نحو عالم عادل لصالح الشعوب المقهورة والمضطهدة ‏والبشرية جمعاء. ‏
    ما يجري أكبر من أوكرانيا ‏
    يلاحَظ بعد انسحاب أمريكا من العراق وأفغانستان استدارتها المتوحشة نحو مناطق الشرق الأقصى وتحديدا اتجاه ‏جنوب شرق الصين، بما تمثله هذه المناطق من أهمية جيو-استراتيجية وفوائد اقتصادية وتفوق تجاري واضح، ‏علاوة على أنها أسواق جديدة تضم دولا وازنة ونافذة ومؤثرة كالصين واليابان والهند وأندونيسيا. وقوى متوسطة ‏النفوذ مثل الكوريتيْن وفيتنام، فضلا عن تنامي وتطور القوة العسكرية للصين التي قد تهدد أمريكا ومصالحها في ‏المنطقة. ‏
    هكذا نشطت الولايات المتحدة الأمريكية واستدارت بوصلتها المتوحشة نحو الصين، وأقامت تحت قيادتها حلف ‏‏(‏‎ AUKUS‏) الذي يضم بريطانيا واستراليا، والذي يعني إقامة تحالف جديد من وراء الاتحاد الأوروربي وتحديدا ‏فرنسا وألمانيا غداة إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون عن أن حلف الناتو مات سريريا، ويعبر عن متغيرات جديدة ‏للسياسات الأمريكية في العالم، بحيث نجد البوارج البحرية لا تبارح قبالة الصين، في الوقت ذاته حاولت أمريكيا ‏محاصرة وتطويق وربما احتلال روسيا عبر إعادة تجديد هندستها لهيكل الأمن في القارة الأوروربية وخاصة ‏لدول شرق أوروبا المجاورة لحدود روسيا متجاهلة الأمن القومي الروسي ورافضة ورقة الضمانات الأمنية ‏الروسية. إن استراتيجة الولايات المتحدة تقوم على أن روسيا والصين ومحيطهما المباشر مناطق نفوذ محتملة لما ‏تمثله بالدرجة الأولى من أهمية جيو-استراتيجية مرتبطة ارتباطا وثيقا بأنهما قلب الاقتصاد العالمي من جهة، ‏ومنافس عسكري حالي ومُهدد مستقبلي.‏
    وعليه نجد أمريكا تبيع الأسلحة لدول تخاف من الصين، ولها خلافات حدودية معها، أمثال اليابان وكوريا الجنوبية ‏والفلبين، فضلا عن مشكلة تايوان، الأمر الذي يدفع الصين مستقبلا بعدم السماح بدخول أمريكا وحلف الناتو في ‏فضاء جغرافيتها، ولتؤكد أنها ليست أوروربا العجوز، ولا دولة من الدول العربية. وستثبت للعالم أنها دولة عظيمة ‏وستتخطى الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا وفي علاقاتها الدولية، وستساهم في إعادة التوازن الدولي.‏
    بالتالي إن تصدي روسيا المباشر لاستراتيجية أمريكا العدوانية بالبدء بالعملية العسكرية في أوكرانيا وقبل ذلك ‏ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، أكبر وأشمل من التدخل لإنقاذ سكان إقليم دونباس من نازية وعنصرية ‏الجماعات القومية الأوكرانية، وإنما تشكل بداية التصدي الجدي لأطماع ونوايا الولايات المتحدة واستراتيجية حلف ‏الناتو اتجاه روسيا ومحيطها الأمني المباشر، هذه العملية العسكرية الواعية تثبت جدية الدولة الروسية ورئيسها ‏الشجاع، الأمر الذي أصاب حلف الولايات المتحدة بالهستيريا من خلال فرض عقوبات اقتصادية وإعلامية غير ‏مسبوقة، والتي ستعود ارتداداتها السلبية على اقتصاد القارة الأوربية، في حين تبقى أمريكا كعادتها بعيدة عن ‏مسرح المعارك والمواجهات وتورط الشعوب والدول وتبقى هي المستفيد الأول. ‏
    إن إدراك حلف الولايات المتحدة للمغزى الحقيقي للعملية العسكرية الروسية وقوة وتحدي روسيا لهم، يؤشر ‏وبشكل ملموس بأنها لم تعد تتحكم عمليا بمصير الشعوب والدول، ووقائع الأحداث ثتبت أنها أخطأت في تقدير قوة ‏ورد فعل روسيا اتجاه أطماعها ونواياها.‏
    تصور استراتيجي للمستقبل ‏
    باتت البشرية اليوم على أبواب نظام عالمي جديد متعدد الأٌقطاب من خلال التقارب غير المسبوق بين روسيا ‏والصين، والذي قد يؤدي إلى تشكيل تحالف أوسع يعتبر ايذانا ببداية نهاية زعامة الولايات المتحدة للعالم وتدخلها ‏السافر في شؤون البلاد والعباد، والتطاول على سيادة الدول. هذا التغيير نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قد ‏يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات متهورة تخلق وضعا عالميا قابلا للانفجار والاشتعال قد يؤدي إلى ‏احتمالية نشوب مواجهة تهدد الاستقرار الاستراتيجي العالمي. لذا نجد أن شبح الخطر النووي قد أطل برأسه، الأمر ‏الذي يؤشر على احتمالية وقوع الحرب العالمية الثالثة بفعل النزعات العسكرية المتأصلة لأمريكا والتي تميل نحو ‏الحرب والعدوان، الأمر الذي يتطلب بلورة الاستراتيجيات والسياسات التحالفية على المستوى العربي والإقليمي ‏والدولي، والدعم والتضامن مع روسيا كقطب مضاد للولايات المتحدة بديلا عن أحادية القطب الإمبريالي الأمريكي ‏وفرض أسس نظام عالمي جديد قائم على التوازن الدولي والعدالة والأمن والاستقرار للبشرية جمعاء. ‏

    http://www.alhourriah.ps/article/74545