في نقاش الحالة الفلسطينية قد نحتاج الى اكثر وأوسع من الحوار التقليدي لنتفق على منهج موحد لكيفية التعاطي مع قضايانا الوطنية.. فما يراه هذا فعلاً نضاليًا صائبًا ووطنيًا ويمثل تطلعات ومصالح كل الشعب، يكون بنظر آخر عملاً مشبوهاً يجب التصدي له بجميع الوسائل حتى لو كان ذلك بأساليب غير ديمقراطية بل غير اخلاقية في كثير من الاحيان..
في تجارب حركتنا الوطنية، كان هناك دائماً قدرة على حل هذا التناقض، إذ رغم الخلاف والتباين بين مكونات منظمة التحرير الفلسطينية واختلاف البرامج السياسية بين مكوناتها، الا ان منطق التقاطعات والتوافقات الوطنية كان هو المنتصر. وقد عاشت حركتنا الوطنية الفلسطينية ازمات كبرى ومرت بانعطافات خطيرة بعضها كان يهدد وجودها، الا ان حل هذه الازمات لم يتطلب سوى اشهر قليلة على اسس وطنية وفي اطار المؤسسات الشرعية الائتلافية.
أما أزمة اليوم فهي وان كانت مختلفة من حيث التوصيف العام، كونها تأخذ منحا مختلفا وتذهب باتجاهات خارجة عن سياق العرف الوطني العام، إلا انها تخضع لذات الاسس في حلها الذي لا يمكن ان يكون الا في الاطار الوطني وعلى قاعدة القواسم المشتركة والشراكة السياسية في صنع القرار، مع الاخذ بعين الاعتبار ما استجد على المستويين الداخلي والخارجي والتي تفرض نفسها بالضرورة على النضال الفلسطيني بشكل عام وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل خاص..
لا نأتي بجديد عندما نقول ان الحالة السياسية الفلسطينية بجميع مكوناتها تعيش ازمة غير مسبوقة طال امدها، وباتت تؤثر سلباً على كافة تفاصيل العمل الوطني الفلسطيني.. وكأن المصائب والكوارث الموجودة لا تكفي الشعب الفلسطيني حتى نضيف عليها قضايا اخرى، فهل نحتاج الى كل هذا، ليس ليقتنع البعض بوجود ازمة استعصت على المعالجة، بل بضرورة بذل الجهود الحثيثة والعمل على حلها، حتى وان تطلب الامر تقديم تنازلات هنا وهناك، خاصة بعد ان تجاوزت تداعيات الانقسام الارض الفلسطينية لتطال كل التجمعات الفلسطينية خارج فلسطين..
نعم يجب ان تقتنعوا يا معشر الانقسام بأنه لا يمكن لاي طرف، مهما بلغ حجمه ومهما اتسعت تحالفاته الاقليمية ان يتحمل عبء قضية كبرى، كالقضية الفلسطينية بمفرده، بل لا يمكن لطرفين مجتمعين ان يكونا بمستوى المخاطر المعروفة للجميع، ما لم يقتنعا بأهمية الوحدة والشراكة الوطنية الحقيقية. ففي ظل الانقسام، وكما اكدت التجربة، فان معاركنا الوطنية ستبقى ناقصة ما لم تخض بشكل موحد وعلى ارضية برامج سياسية واضحة، ولا يمكن، على سبيل المثال، ان نرى غزة وقد استعادت عافيتها باعمارها وفك الحصار الظالم عنها الا بجعلها قضية الكل الفلسطيني بعيدا عن المنطق الفئوي.. ولا امكانية لتحقيق اي انتصار في ظل عملية تفاوضية ستبقى مختلة ما لم يتم تغيير الذهنية التي تتحكم بخياراتنا الوطنية.. نعم في ظل الانقسام، فالازمة تأكل كل فعل نضالي، وتخفف وهج كل ضوء قادم من بعيد، لذلك لا يمكن ان نتحدث عن منتصر ومهزوم.. ورغم هذا وهذا، فهناك من لا زال يناقش بمكابرة إن كنا في ازمة ام لا!
– عندما تعجز كل الحركة الوطنية بمكوناتها الرسمية والشعبية والثقافية والنقابية عن تقديم اجابات شافية على اسئلة الهوية والمصير والمستقبل.. فنحن حتما نعيش ازمة..
– حين يحصل الانقسام في ظل اصعب مرحلة تعيشها القضية الفلسطينية، بل حين يتعمق الانقسام وتزداد الشرذمة في ظل «صفقة القرن» وتغول المشروع الصهيوني الذي يمشي سريعًا، ويتحدث الجميع، ليل نهار، بأن الانقسام يخدم الاحتلال ومشاريعه، ورغم ذلك ننتقل من انقسام إلى انقسام، ألا يشكل هذا بنظركم أزمة كبرى؟
– حين تصدر عشرات الوثائق التي قالت بما يكفي عن تداعيات استمرار حالة الانقسام، لكن برغم ذلك نعود أمام كل فصل لنناقش بديهيات ومسلمات سبق أن توافقنا حولها.. فهذا يعني اننا في ازمة..
– حين يتخذ المجلس المركزي لمنظمة التحرير قراراً بتشكيل السلطة، ويعني هذا أن المنظمة هي الاساس والسلطة هي الفرع، لكن عندما تصبح السلطة بمؤسساتها ومكوناتها المختلفة الرقم (1) وتصبح المنظمة مجرد تابع لها، فهذا يدل على ازمة..
– حين يتم الغاء الانتخابات التشريعية بقرار انفرادي من قبل رئيس السلطة الفلسطينية ودون مناقشة مع أي فصيل، وبالتالي يصبح هذا الاجراء ورغم عدم شعبيته وعدم قانونيته، امراً واقعًا لنعود من جديد وندعو الى هذه الانتخابات.. فهذا جوهر ازمة ؟
– حين ننتصر مرة ومرتين وثلاث مرات ولا نستطيع ترجمة انتصاراتنا الى انجازات وطنية لصالح الكل الفلسطيني، بل ما تلبث هذه الانتصارات لتتحول الى عبء على الجميع بفعل انانية هذا وفئوية ذاك .. فهذا يدلل على وجود ازمة..
– عندما يصبح المطلب الاول للشباب في قطاع غزه ولبنان وسوريا هو الهجرة عبر قوارب الموت ولا تستطيع كل «قوى الثورة والمقاومة والسياسة» أن تمنع ذلك، فهذا يعني اننا في عمق ازمة..
– حين يستضعف اللاجئون في اكثر من منطقة بسبب عدم وجود مرجعيات وطنية، وحين تصبح الهوة شاسعة بين المكونات الفصائلية والشعبية بمختلف تشكيلاتها.. ألا يدل هذا على ازمة.
– عندما تنادي عائلات الشيخ جراح وتستغيث الفصائل لنجدتها، وعندما تبكي النساء والاطفال في أحياء القدس رعبًا من ممارسات المستوطنين وافعالهم، ولا تسمع احداً.. لأن هذا الاحد مشغول بالمجلس المركزي وبـ«صفقاته وامتيازاته»، الا يدل هذا على اننا في ازمة؟
– حين تصدر دعوات علنية في لبنان للاجئين للتنازل عن حق العودة واستبداله ببصع دولارات، وحين تنظم مسيرات جماهيرية من المخيمات امام ابواب السفارات الاجنبية طلبا للهجرة ومن اجل فتح ما يسمى اللجوء الانساني.. فهذا ما هو اكبر واعمق من ازمة.
– عندما يعيش المئات من اللاجئين الفلسطينيين في حالة ضياع على حدود الدول الاوروبية في ظل البرد والرعب هناك، ولا نجد من ينبري من فطاحل السياسة والوطنية من ينبري لمساندتهم.. أليس هذا دليل ازمة!.
– حين يفترش العشرات من اللاجئين الفلسطينيين المهجرين من سوريا الى لبنان الارض امام مقر الاونروا المركزي مطالبين بحقوقهم التي قطعتها الاونروا، بينما البعض يتصارع على مرجعية كاذبة، فهذا يؤشر أننا نمر في ازمة.
نعم هي ازمة الكل في وجه الكل: ازمة منظمة، سلطة، فصائل، لجان واتحادات، مؤسسات اعلامية، برامج وسياسات وخيارات وطنية.. هي ازمة بحجم القضية، وكل من يتجاهل هذه الحقيقة فهو إما جاهل بما هو واقع او مشارك في صنع هذه الجريمة التي اسمها ازمة..
لكن ما العمل وكيف الخروج من هذه الازمة؟ قد لا نحتاج الى مزيد من الحوارات على المستوى الفوقي، ولا نحتاج ايضا الى كثير من وثائق، فبيدنا ما يكفينا منها، لو توفرت الارادة على المعالجة. وقد لا نحتاج ايضا الى ورش عمل وطنية تقترح المعالجات لكل المشاكل التي تعيشها تجمعات الشعب الفلسطيني، وبعضها عرضة لمخاطر كبرى.. ما نحتاجه فعلا هو اقتراب الروح الفلسطينية من بعضها البعض، ان يكون الجميع مع الجميع، وان تتعاطى مكوناتنا الوطنية على قاعدة المصلحة الوطنية فقط، نحتاج الى نقاش هادىء على مستوى كل التجمعات داخل وخارج فلسطين التي تئن تحت وطأة ازمات اقتصادية وامنية واجتماعية وقانونية كبرى..
هي نقاشات يجب ان تنتج مرجعيات وطنية متوافق عليها، تعمل على جسر الهوة الآخذة بالاتساع بين الحالتين السياسية والفصائلية والشعبية.. خاصة في مخيمات سوريا ولبنان حيث الحاجة اكثر لعمل موحد يضع اللاجئين الفلسطينيين في مسار العملية الوطنية الفلسطينية ويفسح في المجال امام هذه التجمعات للمشاركة في صنع القرار بعيداً عن منطق البعض الفصائلي والفئوي الذي لم ينتج الا مآس ما زال شعبنا يدفع ثمنها..
إن المشهد الفلسطيني الحالي يكاد يتشابه مع المشهد الذي كان سائداً قبيل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لجهة غياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة التي ينبغي ان تشكل حاضنة لكل مكونات الشعب الفلسطيني، في ظل حالات احباط تعيشها التجمعات الفلسطينية بفعل انقسام بين الفصائل التي تتقاذف التهم شمالا ويمينا، والحالة الجماهيرية المتقدمة والمفتقدة لمرجعية وطنية تقود نضالها وتدافع عن مصالحها..
لم يعد الهروب ممكنًا من حقيقة ان الواقع السياسي الراهن بات يلعب دوراً معرقلًا لأي عملية نهوض مستقبلية تسعى الى التغيير، وإذا لم يأت التغيير من داخل الحالة السياسية، سلطة ومنظمة وفصائل، فإن ثقل المعاناة سيفرض تغييرا من خارجها.. لأن النظام السياسي الحالي بات خارج الزمن ولم يعد قادرا على استيعاب اية تغييرات، لأنه مصمم على مقاس عملية تفاوضية استنفذت اغراضها وانتهت مفاعيلها السياسية..
كما ان استعراض هموم ومشكلات التجمعات الفلسطينية المختلفة، من غزة الى لبنان وسوريا والضفة، مضافًا اليها تداعيات الانقسام الفلسطيني وغيرها من القضايا والهموم الضاغطة التي تفرض على الجميع نظرة اكثر شمولية في التعاطي مع واقعنا. فكفانا تشرذما وانقساما، وليكن شعار الجميع: «مناضلون ومتحدون في مواجهة العدو الاسرائيلي ومشاريعه التصفوية».■