الفقر والبطالة في الضفة وغزة من منظور تنموي مقاوم
2021-02-27
لا شك أن هناك أهميةً متزايدةً للاقتصاد المُقاوم، كاستراتيجيةٍ مُثلى للحد من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حالات الحصار السياسي، أو الاحتلال الجزئي أو الكُلي من قبل قوى الاستعمار، وتحديداً للمجتمعات التي تعاني من شح الموارد، وفي الحالة الفلسطينية وفي ضوء تغول الاحتلال، وانتهاجه لسياساتٍ تستهدف كبح جماح أي إمكانيةٍ لتحقيق تنميةٍ حقيقيةٍ للاقتصاد الفلسطيني، وإضعافه بشكلٍ يُقيد نموَه ويُعزز مكامنَ الهشاشة فيه، فإن بزوغ مصطلح الاقتصاد المقاوم وتحديد ملامحه بات ضرورةً ملحةً وهدفاً وطنياً سامياً.
إن الحديث عن الاقتصاد المُقاوم، والبحثَ في عددٍ من الحلول الجذرية للمشكلة الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والمتمثلة في النمو الملحوظ لآفتي البطالة والفقر وبنسبٍ متفاوتة، مع تسجيل قطاع غزة لمعدلاتٍ قياسيةٍ في تلك الآفتين، وخصوصاً بعد الانقسام الفلسطيني، في يونيو 2007 يُعتبر ضرورياً لجهة الإخفاقات الاقتصادية التي رافقت الحكومات الفلسطينية، سواء في رام الله أو غزة، والتي لم تتمكن من تحقيق أية نجاحاتٍ تّذكر في مسألة الاقتصاد المقاوم، وإرساء مفاهيم التمكين والجلد، وخصوصاً في المناطق التي تتعرض لهجماتٍ إسرائيليةٍ واعتداءاتٍ مستمرةٍ كما هو الحال في الضفة الغربية، بالتزامن مع الحصار الإسرائيلي وتشديد حركة المعابر في قطاع غزة.
وعلى النقيض ورغم أهمية الاقتصاد المُقاوم في الحد من مشكلتي الفقر والبطالة، إلا أن إجراء قراءةٍ مُعمقةٍ وفاحصةٍ للإجراءات/السياسات المتبعة من قبل حكومة السلطة الفلسطينية واللجنة الحكومية في غزة، وتحديداً في عهد الانقسام الوطني منذ 14 سنةً، تُظهر حجم الإخفاقات الاقتصادية في المناطق المُحتلة، حيث تستند فلسفة كلا الحكومتين على انتهاج سياسات الاقتصاد النيو ليبرالية، وهي من أكثر السياسات تنافياً مع مبدأ تنمية الاقتصاد من منظورٍ مُقاوم، حيث قيدت هذه السياسات الإنتاج، وحدًت من النمو الاقتصادي المُحابي للفقراء، إضافةً لمحاباتها للاحتكارات ولتغول رأس المال وأسلبته للثروات الفردية، والعمل بجدارٍ قانونيٍ وبكل حرية، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال سيادة التناقضات في المجتمع الفلسطيني، حيث حالة من الفقر المجتمعي، إضافةً لحالةٍ من الإثراء الفردي اللا مشروع، ويُسهم ذلك بإضعاف المجتمع وإضعاف كل إمكانيات النهوض، على قاعدة لا تنمية في ضوء الإفقار وانعدام العدالة الاجتماعية.
إن تخصيص المنافع/ المكاسب الفردية على حساب تعميم الخسائر المجتمعية، وفي حالة الضفة وغزة يتنافى مع أية جهودٍ تبذل لتنمية الاقتصاد الفلسطيني، وكبح جماح نمو ظاهرتي الفقر والبطالة، لجهة أن اتساع الهوة بين الشرائح المجتمعية واستحواذ أقليةٍ هامشيةٍ على الحيز الأكبر من الثروة، تؤثر سلباً على إجمالي الطلب الكلي بشقيه الاستهلاكي والاستثماري، فوفقاً لنظريات الاقتصاد المتعددة فإن الميل الحدي للاستهلاك لدى الفقراء وذوي الدخول المحدودة، يُعتبر أعلى بكثير مقارنةً بذوي الدخول المرتفعة، وعليه فإن ارتفاع نسب الفقر والبطالة في الضفة وغزة، حيث وصلت معدلات الفقر إلى قرابة 53% في قطاع غزة مقابل 13.9% في الضفة الغربية وذلك في العام 2017، كذلك وصلت معدلات البطالة إلى 45.1% في قطاع غزة مقابل 14.6% في الضفة الغربية في العام 2019، يعني أن هناك انخفاضاً في حجم الاستهلاك، وبالرجوع إلى الإحصاءات المنشورة نجد أنه قد حقق الاستهلاك النهائي في قطاع غزة تحديداً انخفاضاً نسبته 5% عام 2017 مقارنةً بالعام السابق، وبالتالي تراجعاً ملموساً في حجم الإنتاج ويرافقه انخفاضٌ حادٌ في الاستثمارات، والذي حقق انخفاضاً 10% في نفس العام المذكور، وعلى صعيد أكبر غياب التنمية الحقيقية وتزايد التهديدات التي ترافق بناء الاقتصاد المنتج، والقائم على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وتحقق الرفاه للنسبة الأكبر من السكان، وهذا لا يُمكن أن يكون أمراً واقعاً في ضوء فوضى السياسات الاقتصادية الفلسطينية، وعدم ربطها بمبدأ التنمية بمنظور الاقتصاد المُقاوم، وعلى العكس فإنها سعت بشكلٍ أو بآخر إلى إحجام وتقييد التنمية من منظورٍ مقاوم، رغم الحاجة المُلحة لذلك في حالة الضفة الغربية وقطاع غزة كحالةٍ استثنائية، حيث أن انتهاج السلطة الفلسطينية وحكومتها في رام الله واللجنة الحكومية بغزة لسياسات الاقتصاد النيوليبرالية، وإطلاق العنان للمبادرات الفردية وإهمال الأنشطة الاقتصادية، التي تُشكل رافداً أساسياً للتنمية الاقتصادية كتراجع نصيب الزراعة من الموازنة الفلسطينية، حيث لا تزيد في أحسن الأحوال عن 1% وهذا إخفاق لا يمكن التقليل من تداعياته السلبية على الاقتصاد الفلسطيني على المديين المتوسط والبعيد، وخصوصاً عند النظر بأهمية الزراعة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فأهمية الزراعة لا تقتصر على كونها نشاط اقتصادي يوفر الغذاء وتحقيق الاكتفاء الذاتي منه وتوفير مصدر دخلٍ للعاملين، بل يتعدى ذلك لاعتبار الأرض بمثابة وطن، وفي ضوء مشاريع التسوية السياسية، وصعود اليمين المتطرف في إسرائيل، والمؤمن بأهمية الأرض والانحياز الأمريكي لإسرائيل، فإن الفلسطيني ليس بصدد البحث عن وطن بديل.
إضافة لذلك فقد ركزت السياسات الاقتصادية الفلسطينية على دعم التجارة ومنح التجار لأذوناتٍ للاستيراد على حساب تنمية أو توفير حاضنةٍ للاستثمار الصناعي والزراعي وفي تكنولوجيا المعلومات، سواءً في الضفة الغربية أو قطاع غزة، إضافةً لذلك، فقد عززت السياسات الاقتصادية الفلسطينية مبدأ الاعتماد على الغير، وتزايد الأهمية النسبية للمساعدات والمنح كموردٍ رئيسيٍ لتمويل الموازنة ونمو الناتج المحلي الإجمالي على حساب خلق الإيرادات المتحصلة من أنشطةٍ وفعالياتٍ اقتصاديةٍ حقيقية، ويعني ذلك أن الاقتصاد هشٌ، وسرعان ما يسجل معدلاتِ نموٍ سالبة في حال توقف أو تراجع الدعم الدولي للسلطة الفلسطينية في رام الله، وفي قطاع غزة؛ فإن توقف المساعدات ومنها مثلاً المنحة الأميرية القطرية، سيعني أن منظومة الفقراء تصبح أكثر انتشاراً.
كما أن لسياسة الأجور دوراً في تعزيز إمكانيات الاقتصاد المُقاوم من عدمه، فوجود قانون ناظم يُحدد الحد الأدنى للأجر، يُعتبر ركيزةً أساسيةً لتعزيز صمود المواطنين، كمدخلٍ لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن منظورٍ مقاوم، مع التأكيد أن فرص تحقق التنمية وعلاج آفتي البطالة والفقر من منظورٍ مقاوم، تُعتبر محدودةً لجهة أن الجيوش لا تزحف على بطونٍ خاوية، كما يقول شيمعون بيريز أحد مؤسسي إسرائيل، وعليه فإن وجود حدٍ أدنى للأجر، ورغم أهميته في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إلا أن عدم الالتزام به وعدم إجراء قراءاتٍ عليه في السنوات الماضية، قد ساهم بشكلٍ مباشرٍ في ارتفاع نسب الفقر والبطالة، وتراجع الاقتصاد القائم على الطلب، كما أن تحديد أجراً أدنى عند 1450 شيكل، وبشكلٍ يقل عن حد الفقر سواء النسبي أو المُدقع، يعني أن سياسات الحكومات الفلسطينية المتعاقبة قد أسهمت في خنق التنمية من منظورٍ مقاوم، فهي لم تسعى لتعزيز صمود المواطنين، وعلى النقيض ساهمت في زيادة نسب الفقر والبطالة، كما أن رفع الحد الأدنى للأجر عند 1900 شيكل للبدء به في يناير 2022 يتطلب إعادة نظر، خصوصاً في ضرورة أن يكون الحد الأدنى للأجر أعلى من حد الفقر من جهة، وأن يرتبط بمؤشراتٍ اقتصاديةٍ عدة كأسعار المستهلك والتضخم ونمو الاحتياجات المُلحة.
رغم أن هناك تفاوتاً في نسب البطالة والفقر في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن الاتجاه العام يشير إلى النمو الإيجابي لظاهرتي البطالة والفقر، وإن كان نموهما في قطاع غزة يسير بشكلٍ أكبر مع وجود إمكانيةٍ لارتفاع نسب الفقر والبطالة في الضفة الغربية في حال أغُلق سوق العمل الإسرائيلي (المستوطنات)، وهذا يتطلب إعادة النظر بكل مسببات ذلك، والتي ترجع لتضافر عوامل عدة، وعدم اقتصارها على عاملٍ واحد، فلا شك أن للاحتلال وسياساته التدميرية دوراً في ذلك، إلا أن هناك أسباباً أخرى، وربما لا تقل أهميةً عن الاحتلال في إضعاف الاقتصاد وإخماد أي إمكانيةٍ للوصول إلى اقتصادٍ منتجٍ ومن منظور مقاوم.
فالانقسام وما تبعه من فوضى في السياسات الحكومية، خصوصاً فيما يتعلق بالدور المنوط بها في التعامل مع القطاعات والأنشطة الاقتصادية المختلفة وسياسة الأجور والاهتمام بالاقتصاد المقاوم، إضافةً لتبني السلطة والحكومات المتعاقبة للاقتصاد الحر، ولسياسات الاقتصاد النيو ليبرالية والتي لا تتوافق بأي حالٍ من الأحوال مع طبيعة المجتمع الفلسطيني في ضوء الاحتلال وفي مرحلة التحرر الوطني.
وبعد 27 سنةً من توقيع منظمة التحرير الفلسطينية لاتفاق أوسلو "المرحلي"، وما انبثق عنه من بروتوكول باريس الاقتصادي، فإن إمكانية كبح جماح الفقر والبطالة ومن منظورٍ مُقاوم، قد شهد انتكاساتٍ عدة، ويعني ذلك أن إمكانية وجود تنميةٍ اقتصاديةٍ حقيقيةٍ تضع حداً لارتفاع نسب الفقر والبطالة يُعتبر أمراً صعباً، وفي السياق فإن حدوث التنمية وفقاً للمنظور المقاوم، يُعتبر مستحيلاً في ضوء الانقسام وغياب القانون وحالة التفرد في الحُكم، والتي أسست لدعائم المجتمع غير المستقر، إضافة لذلك فقد صُمم بروتوكول باريس على جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي، من خلال التحكم في الموارد كافة وعلى رأسها ايرادات المقاصة، والتي تعني أن السلطة الفلسطينية وصلت لمرحلة أنها غير قادرةٍ على الفطام من الثدي الإسرائيلي، ويعني ذلك أن إمكانية حل مشكلات الفقر والبطالة من منظورٍ مُقاوم سيصطدم بالكثير من العراقيل .
وفي الختام، فإن هناك ضرورةً لإعادة النظر بسياسات الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز صمود المواطنين وتمكينهم اقتصادياً، والاهتمام بتنمية الاقتصاد الحقيقي، وذلك بإعطاء اهتماماً أكبر بالزراعة والصناعة، وإيلاء أهمية قصوى للأجور وتحقيق النمو المحابي للفقراء، وهذا يتطلب تضافر وتعزيز البعدين الرسمي والشعبي وتدخلهما النشط في الاقتصاد.