لن تنسى البشرية عام 2020، وسيذكره التاريخ كنقطة تحول في حياة الناس والنظام العالمي، سيتذكر العالم تلك الحرب الصامتة، التي اندلعت دون عنف أو دماء، فما زال فيروس كوفيد 19 ينتشر في كل مكان، بتداعيات اقتصادية واجتماعية وصحية خطيرة، وارتفاع عدد الوفيات. ولكن، وفي محاولة فهم المشهد الحالي: هل كانت المؤشرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية قبل ذلك جيدة ومرضية؟ وهل كان الواقع العالمي رومانسيا قبل جائحة كورونا؟
لقد توقع تقرير آفاق تطور الاقتصاد الكلي على الصعيد العالمي لعام 2019، والذي تصدره الأمم المتحدة أنه وفي الفترة 2017 – 2019، حدوث مزيد من الانتكاسات أو تحقيق نمو ضئيل في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في وسط أفريقيا وجنوبها وغربها، وفي وسط وجنوب وغرب آسيا، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وحسب الأرقام فإن ما يقارب 275 مليون شخص من سكان تلك المناطق يعيشون في فقر مدقع.
وفي موقع آخر أشارت ميشيل باشيليت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في بيان لها في نوفمبر 2018 أن عام 2016 وحده سجل أكثر من 7 ملايين حالة وفاة بسبب تلوث الهواء، من بينهم نصف مليون طفل دون سن الخامسة، وفي عام 2019 نشرت الأمم المتحدة التقييم الأكثر شمولية حول حالة البيئة في السنوات الخمس الأخيرة، وحذرت من المخاطر التي تلحق بصحة البشر وكوكب الأرض، نتيجة الأضرار الجسيمة التي تلحق بالنظام البيئي. أما منظمة العفو الدولية فقد أشارت إلى مخاطر إنتاج الأسلحة والتجارة بها واستخدامها، ففي كل عام يتم إنتاج 12 مليار رصاصة، أي ما يكاد يكفي لقتل كل شخص في العالم مرتين، فإذا كان هناك إحتمالية شفاء من فيروس كورونا، فالموت من تلك الأسلحه محتوم. وبالتالي ألم يكن موت سبعة ملايين شخص في عام واحد، نتيجة التلوث، وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين نتيجة النزاعات المسلحة، وموت الأطفال بردا في مخيمات اللجوء، أليس كل ذلك كفيلا بإعلان حالة الطوارئ والإستنفار العالمي، لوقوع كارثه حقيقية تهدد مستقبل البشرية؟
لقد أجبر هذا الفيروس العجيب، العالم على إعلان حالة التأهب القصوى، مطلقا صفارة الإنذار من خطر الممارسات الخاطئة والمحرمة للإنسان والقوى العالمية على الأرض.
ظهر الوباء في وقت تتباهى فيه الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتقدمة بتفوقها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والعسكري. لكن الفيروس أسقط وهم التفوق لتلك الدول، ألا يدعو ذلك إلى إعادة النظر في معايير تصنيف العالم إلى عالم متقدم وعالم متخلف؟ وهل يعقل لدولة تتفشى فيها العنصرية، وترتفع فيها نسبة الجريمة، واستخدام الأسلحة غير المشروع، أن تصنف دولا متقدمة ومتحضرة فقط لأنها متفوقة عسكريا أو اقتصاديا وتعجز عن إيجاد لقاح لفيروس رغم أنها تمتلك أضخم مراكز البحوث العلمية؟
لقد أثبت هذا الفيروس أن تقدم الشعوب قائم على الإنسانية والتكافل، وأن الصراع هو بين قوى عالمية، وليس بين الحضارات الإنسانية. من ناحية أخرى وعلى الرغم من المشهد الضبابي الذي يسود الكرة الأرضية، برزت لوحة جميلة من التضامن والتعاون الحقيقي بين الشعوب والحكومات، وهذا يثبت أن أصل الحضارة هي الإنسانية، وأن التعاون والبحث العلمي والإستكشاف يجب أن يكرسوا من أجل البناء والتقدم وليس من أجل السيطرة.
أثبت الفيروس أن العقل البشري خلق من أجل الإعمار لا من أجل الدمار، وسبق للمفكر عباس محمود العقاد أن نبّه إلى خطورة استخدام العقل في إنتاج أسلحة الفناء، ودعا إلى تعاون العلماء في إنتاج وسائل تسهل حياة البشر، وتقيهم المخاطر والكوارث والأوبئة، وهو ما يتأكد اليوم بصورة قاطعة، حيث طالب الأمين العام للأمم المتحدة، بأن تتخذ المنظمة الدولية خطوات جدية، لوقف النزاعات المسلحة في العالم، وتتحمل مسؤولياتها في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وتضع حدا لكل الانتهاكات للاتفاقيات الدولية، واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا، وانتهاك الاتفاقيات الخاصة بحماية النظام البيئي، وعدد من التدابير لمنع أي تهديد للسلم والأمن الدوليين.
نأمل أن تقود أزمة كورونا إلى صحوة لشعوب العالم أجمع، بالمطالبة بحقها في الحياة بهدوء، وأمان وبيئة نظيفة. وعلى صعيدنا نحن، نأمل أن تؤدي هذه الأزمة إلى خلق تضامن وتكافل عربي حقيقي، وأن يتم التركيز على التماسك الاجتماعي، كركيزة أساسية لمواجهة الأزمات، فقد كشفت الأزمة عن عيوب الإصلاح التنموية في العالم، وأثبتت أن الإصلاح الحقيقي يأتي من خلال الإستثمار بالرأس المال البشري.
فيروس لا يرى بالعين المجردة، استطاع أن يقلب العالم رأسا على عقب، ويعجز دولا بإمكانيات علمية وتكنولوجية وعسكرية هائلة، ألا يجب أن يعيد العالم تفكيره في موازين القوى، بعدما تبين أن الإنسانية هي الثابت الوحيد بين كل تلك الرمال المتحركة؟