نقاش هادئ ... قراءة في المكانة الجوهرية للبرنامج المرحلي
2020-11-18
■ قرأت مؤخراً ما جاء في مقال «نقاش هادئ مع أصحاب مشروع دولة تحت الاحتلال»، الموقع باسم اسحق أبو الوليد (كاتب سياسي فلسطيني مقيم في فنزويلا كما يعرف عن نفسه)، والصادر على صفحات الهدف، الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (العدد 19/1493 تشرين أول/ أكتوبر 2020)، وخلصت منه إلى النتائج الأولوية التالية.
1) أن كاتب المقال يجهل تماماً طبيعة القضية الوطنية الفلسطينية، من داخلها، وأن معالجته إنما هي معالجة خارجية (برانية) تنظر إلى الموضوع الفلسطيني نظرة سطحية، بعيداً عن الغوص في تعقيدات القضية، إن على الصعيد الفلسطيني، الشعبي والمؤسساتي، أو على الصعيد العربي والدولي، ويجهل المسارات النضالية التي قطعتها القضية الوطنية، منذ انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وما عاشته من تعقيدات نضالية، على الصعيد الداخلي، كما على الصعيد العربي، والدولي، وكيف نظر المجتمع الدولي إلى القضية الفلسطينية بداية، وكيف نجحت التطويرات البرنامجية التي أدخلها اليسار الفلسطيني على القضية في استحالة المجتمع الدولي لصالح القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وكيف استطاعت تلك التطويرات أن تعيد توحيد الشعب الفلسطيني، برنامجياً، وكيانياً، في الـ48 + 67 + الشتات، تحت راية م. ت. ف. التي انطلقت في سماء النضال باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأغلقت الطريق على كل المحاولات العربية، التي يتجاهلها صاحب المقال، لاغتصاب التمثيل الفلسطيني، في المحافل الدولية، وشطب الكيانية الوطنية الفلسطينية. لذلك أدعو إلى عودة جديدة لقراءة التاريخ الفلسطيني وخصوصية انطلاق الحركة الوطنية المعاصرة، قبل الانزلاق نحو أحكام لا تقدم إلا تقديرات، تحل النزعة الإراديوية، والجمل الرنانة، بديلاً للبرامج النضالية، التي تستقطب نهوض الحالة الجماهيرية، لتشكل هي أداة النضال الأساسية، بديلاً لحالة الاسترخاء الانتظارية التي تدعو لها الشعارات الكبرى، والتي تبدو عظيمة في مظهرها، فارغة من أي مضمون حقيقي.
2) أن كاتب المقال يجهل تماماً البرنامج المرحلي وعناصره وفحواه ومضمونه، وسياقه السياسي وارتباطه بالحل الوطني الناجز للقضية الفلسطينية، فهو أولاً ليس «حل الدولتين»، ومن يخلط بين «حل الدولتين» كما طرحه الرئيس الأميركي الأسبق بوش الابن، وبين البرنامج المرحلي، إما هو جاهل لمضمون البرنامج المرحلي، والفارق بينه وبين «حل الدولتين»، وإما هو ضحية الآلة الإعلامية التي نجحت للأسف في تشويه وعي الكثيرين، وأسهمت (أيضاً للأسف) في تمليك بعض الأطراف الفلسطينية، التي نذرت نفسها لبث السموم ضد البرنامج المرحلي، فرصة جديدة للتمترس خلف «حل الدولتين»، لإطلاق النار على البرنامج المرحلي، رغم أنه أصبح البرنامج الوطني لعموم الشعب الفلسطيني.
3) «حل الدولتين» يقوم على التالي:
• يعترف أن إسرائيل لم تستكمل بنيانها، وأن من شأن «حل الدولتين» هو استكمال هذا البنيان من خلال الاستجابة لمطامعها في امتلاك حدود آمنة، وبالتالي؛ فإن «حل الدولتين» يعترف أن لإسرائيل حقاً في الوجود، فضلاً عن حقها في ضم أجزاء من الضفة تحت مسمى «تبادل للأراضي متفق عليه».
• «حل الدولتين» يسقط من حساباته حق اللاجئين في العودة، ويدعو لحلول بديلة، كلها خارج مبدأ حق العودة، باعتباره حقاً مقدساً لا يُمس.
• «حل الدولتين» يعيد تجزئة الشعب الفلسطيني الموحد، هو حل منقوص لقيام دولة بلا سيادة فوق أجزاء من الضفة والقطاع، مسقطاً من حساباته مصير الفلسطينيين العرب في إسرائيل، ومصير اللاجئين في الشتات.
• «حل الدولتين» لا يعترف بالقدس عاصمة لفلسطين بل يقدم مشروعاً بديلاً يكفل للإحتلال الإسرائيلي عدم الإنسحاب إلى حدود 4 حزيران، ودوام سيطرته على المدينة «موحدة».
• «حل الدولتين» يقوم على تفاوض مختل الموازين والأسس والآليات والمرجعيات، ولا يقوم على حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره فوق أرضه.
4) البرنامج المرحلي، لم يعد برنامج الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحدها. بل بات برنامج الشعب الفلسطيني وقواه السياسية. هو البرنامج الذي كرس م.ت.ف ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وأي فصل بين الموقع التمثيلي للمنظمة وبرنامجها السياسي هو افتراء على التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني. هو البرنامج الذي فتح أمام الشعب الفلسطيني وقضيته العودة إلى المحافل الدولية بإعتبارها قضية تحرر وطني لشعب تحت الإحتلال، بعدما حولها بعض العواصم العربية إلى مجرد قضية إنسانية لالاف من اللاجئين، هو البرنامج الذي وحد الشعب. حيث في 30/3/1996 خرجت جماهير الشعب الفلسطيني في إسرائيل ترفع علم فلسطين وتهتف أن م.ت.ف هي ممثلنا الشرعي والوحيد. هو الذي فجر الإنتفاضة الأولى والثانية، هو الذي شكل أساساً للوحدة الوطنية، بما في ذلك حركتي حماس والجهاد. هو الذي وحّد الأسرى في المعتقلات وقادهم إلى وضع مسودة وثيقة الوفاق الوطني في 26/6/2006. هو الذي شكل الأساس السياسي لاستعادة الوحدة في الحوار الوطني الفلسطيني في 22/11/2017، والذي وقعت على بيانه الختامي الفصائل الفلسطينية كافة. وهو الذي شكل الأساسي السياسي لإجتماع الأمناء العامين في رام الله وبيروت. وهو البرنامج النضالي الذي تنمو تحت رايته المقاومة الشعبية في أنحاء الضفة، هو البرنامج النضالي الذي يتمترس خلفه قطاع غزة في صموده ضد الحصار.
5) البرنامج المرحلي، لا يقرأ خارج سياقه السياسي الوطني الشامل، ولا يقرأ إلا بإعتباره برنامجاً متكاملاً في دوائره الثلاثة:
• دائرة النضال في إسرائيل، من أجل الحقوق القومية للفلسطينيين العرب والمساواة في المواطنة، والنضال في المؤسسة وفي الميدان لتفكيك منظومة القوانين الصهيونية القائمة على التمييز العنصري. مع إدراك عميق أن شعبنا في إسرائيل (وأحزابه السياسية) هو المعني بصياغة آليات نضاله. وبشيء من التدقيق سيلاحظ المراقب أن النضال الوطني لشعبنا في إسرائيل، هو ترجمة عملية وميدانية للبرنامج المرحلي، ما عدا قلة يمثلها أحد أجنحة الإسلام السياسي وأقلية قومية لا تملك قاعدة اجتماعية، يسبب من نزعتها السياسية الانعزالية.
• دائرة النضال في المناطق المحتلة عام 1967، لدحر الاحتلال، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على حدود 4 حزيران (يونيو)67.
• دائرة النضال في صفوف اللاجئين من أجل حقهم في العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948.
وبشيء من التفصيل لا يفصل البرنامج المرحلي بين محوره الوطني، ومحوره الإجتماعي، أخذاً بعين الإعتبار أنه برنامج لشعب، له حياته وحاجاته اليومية، التي تندرج في النضالات الإجتماعية، كمحور وكالة الغوث للاجئين، والحقوق الإنسانية والاجتماعية في الدول العربية المضيفة، ومحور النضال النقابي الإجتماعي والمطلبي في مناطق السلطة، فضلاً عن المطالب اليومية لأهلنا في الـ48 في إطار النقابات والبلديات والجمعيات والمؤسسات الثقافية وسواها.
هذه هي محاور البرنامج المرحلي، باعتباره برنامجاً نضالياً، لشعب وقواه السياسية وليس برنامجاً لطاولة المفاوضات، ومن يحاول أن يقدم البرنامج المرحلي برنامجاً تفاوضياً فحسب، إنما يحاول أن يشوه المضمون النضالي للبرنامج، ويقفز عن تضحيات الشعب الفلسطيني طوال سنوات نضاله الطويلة، تحت راية هذا البرنامج وعلى هدي أهدافه المشروعة.
أما القول بأن القوة المطلوبة لإنجاز البرنامج المرحلي، هي نفسها القوة المطلوبة لإزاحة الكيان الإسرائيلي، فهذا مجرد افتراض، لا يقرأ موازين القوى، ولا الحالة العربية ولا الحالة الدولية وهذا بحث آخر يحتاج إلى نقاش من نوع آخر.
6) ولتأكيد وجهة نظري أن صاحب المقال؛ لا يُدرك المعاني الحقيقية للبرنامج المرحلي، ولا يُدرك التفاصيل الدقيقة للقضية الفلسطينية، وأنه مغرم بالعناوين، ويرفض الغوص في تفاصيل القضايا، بما تمليه علينا من مسؤوليات يومية، نصنع الحدث، ولا نكتفي بمراقبته والتعليق عليه.
لتأكيد هذا كله، أدعو صاحب المقال لقراءة دعوة الجبهة الديمقراطية لبسط السيادة الوطنية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. هذه الدعوة، لمن لم يقرأها جيداً، ولمن يحاول أن يعتزمها، اندرجت في نضال قوى المعارضة الفلسطينية من أجل الخروج من «اتفاق أوسلو»، والتحرر من قيوده، والتزاماته، والعودة إلى رحاب الوحدة الداخلية، التي أضرَّ بها أوسلو، وإعادة استنهاض الحالة الشعبية في مواجهة الاحتلال.
وعلينا؛ في هذا السياق، أن نلاحظ أن دعوة بسط السيادة، التي أطلقتها الجبهة الديمقراطية في مؤتمرها الرابع، تحولت الآن إلى قرار وطني تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الأخيرة، وشكل قرار 19/5/2020 الخطوة الأولى والجزئية نحو تطبيقه، حين قررت القيادة الفلسطينية التحلل من «اتفاق أوسلو» والتزاماته.
■■■
أخيراً وليس آخراً، سأختم بملاحظتين، أعتقد أن كلا منهما تشكل مدخلاً لنقاش من نوع آخر.
• كثيراً ما نقرأ في الأدبيات السياسية، خاصة على صفحات الهدف دعوات متكررة لضرورة إجراء مراجعة نقدية شاملة للمسار الوطني. أليس من واجب أصحاب هذه الدعوة أن يبادروا هم أنفسهم إلى إجراء هذه المراجعة بدلاً من تلك القفزات السياسية الرجراجة التي لا تقود إلى شيء عملي وميداني.
• تطفو لدى البعض نغمة «الدولة الواحدة»، ويضيع الحديث بين دولة «ثنائية القومية» (أي الاعتراف باليهود قومية إلى جانب القومية العربية) وبين دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها. لكن للأسف لم يقدم أي من أصحاب هذه الدعوة برنامجاً يستجيب لهذه الدعوة سوى الاكتفاء بالشعار. ونعتقد أن الشعار شيء والبرنامج شيء آخر. وأن أي شعار عاجز عن التحول إلى برنامج عملي ميداني، يستقطب الحالة الجماهيرية ويستنهضها، ويرسم لها اتجاهاتها النضالية، إنما هو شعار أعمى مشلول، قد يلبي حالة الهذيان السياسي لدى البعض، لكنه لا يلبي الحاجة الوطنية لبرنامج نضالي يشق للشعب طريقه ولا يغلقها■