تبرز الصيغة التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني بلفور، إلى اللورد اليهودي روتشيلد بمثابة القطعة الناقصة، التي تكتمل اللوحة من خلالها، والتي من دونها يغدو المشهد ناقصاً، مما يحول دون الاحاطة به، وبالتالي الغوص في تفاصيله، والوصول إلى خباياه.
ولكن المسألة بأن الوعد لا يشكل بحد ذاته اللوحة، بل هو تفصيل أساسي يكمل سرد التفاصيل. يتكثف جوهر الموضوع في عبارتين موجزتين «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، بحجة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». بداية لم ينبثق وعد بلفور من فراغ، ولم يأت ليشغل هامشا، بل سبقته مراحل تمهيدية شكلت مرتكزا أساسيا له, وارضية استند إليها كي يتحقق في نقلة نوعية، من الجانب المرتكز على الأمنيات والرغبات والرؤى الهائمة، المستندة على التوراة، والحق الالهي في أرض الميعاد، باعتبار أن اليهود هم شعب الله المختار. إلى تطبيق عملي يتجذر بشراسة في الواقع العربي، تحت مسمى دولة اسرائيل. بالارتكاز إلى معطيات شكلت أرضية له، منها المساعي الاوربية لدرء خطر اليهود عنها، والحد من موجات الهجرة اليها، من خلال العمل على ايجاد وطن بديل لهم، وذلك في ظل تعدد الخيارات المتاحة، وامتداد هيمنة الاستعمار الاوروبي بأشكاله المتعددة، على بلدان عديدة.
ومن ذلك ايضا يبرز كمعطى اساسي المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد في مدينة بال بسويسرا عام 1897 بزعامة ثيودور هرتزل، الصحفي اليهودي الذي نشر كتابا بعنوان «الدولة اليهودية»، أكد فيه أن الحل الوحيد للمسألة اليهود في أوروبا، بما فيها تنامي معاداة السامية، هو تأسيس دولة لليهود في فلسطين. ومن ثم أسس المنظمة الصهيونية، التي دعت في أولى مؤتمراتها إلى تأسيس «وطن للشعب اليهودي في فلسطين». من خلال تعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتنظيم اليهود في الشتات، وتعزيز الشعور والوعي اليهودي، والحصول على الدعم اللازم، والسعي لنيل تعهد من الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لليهود. في فلسطين، بالاستناد على توظيف الرواية التوراتية، بما يدفع اليهود في كافة ارجاء العالم للهجرة إلى فلسطين. ومؤتمر «كامبل بانرمان» الذي انعقد ما بين عامي (1905ــ 1907)، وشارك فيه ممثلون عن الدول الاستعمارية الأوروبية كإنكلترا وفرنسا وإيطاليا.. والذي اعتبر بأن الشعوب العربية تنتمي إلى أمة لديها قواسم مشتركة، ستشكل في حال توحدها خطراً على مجمل المصالح الاستعمارية في المنطقة، مما يتطلب إقامة كيان، يفصل الجناح العربي في آسيا، عن الجناح العربي في أفريقيا، والعمل على إبقاءها مفككة جاهلة متأخرة. وبذلك فقد تنامى الاهتمام بفلسطين, لموقعها المهم بالنسبة لطرق التجارة الدولية, وبرزت فكرة استعمارها، وتضاعف هذا الاهتمام, مع نشوء «المسألة الشرقية» التي تعرف «أنها مشكلة ملء الفراغ الذي ولده الانحسار التدريجي للدولة العثمانية»، وبناء على ورد في مؤتمر «كامبل بانرمان»، قدم الوزير البريطاني اليهودي هربرت صاموئيل، في عام 1908 مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين، تحت إشراف بريطانيا، مبيناً الفوائد التي ستحصل عليها بريطانيا في حال قيام هذه الدولة.
تتويجا لما سبق برز وعد بلفور في 2/11/1917. وأصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك بلفور وعده المشؤوم، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، على حساب حقوق الشعب العربي الفلسطيني الوطنية والتاريخية. وقد صدرت الصيغة النهائية للوعد في 2/11/1917، بشكل رسالة من وزير الخارجية بلفور إلى اللورد روتشيلد، ونشرت في الصحافة البريطانية في 9 /11 وفق النص التالي:
عزيزي اللورد روتشيلد
يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء.
(إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الاخلال بالحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين أو بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى).
إني أكون مديناً لكم بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني.
المخلص
آرثر بلفور
سبقت هذه الصيغة محاولات عديدة، حتى تم التوصل إلى الشكل الذي استقرت عليه. فالمسودة الصهيونية (تموز 1917) كانت تنص على «إعادة تكوين فلسطين لتصبح الوطن القومي للشعب اليهودي»، مع قيام الحكومة البريطانية ببحث كيفية تحقيق ذلك مع المنظمة الصهيونية. ولكن اللورد ملنر أحد الوزراء المتحمسين للوعد عدل النص في آب 1917 وأعطاه صيغة «إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين». وفي تشرين الأول كتب ملنر بالتعاون مع ليوبولد إيمري مسودة ثالثة أخذت بنظر الاعتبار احتجاجات المعارضين اليهود، فأشير إلى حقوق الفئات غير اليهودية وحقوق اليهود، ومكانتهم السياسية في الدول الأخرى، ممن يشعرون بالرضى بجنسيتهم ومواطنتهم الحالية. وفي عام 1915، تبادل المندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون عشر رسائل مع حسين بن علي شريف مكة، واعدا بالاعتراف بالاستقلال العربي ضمن الحدود المقترحة من قبل شريف مكة، مقابل إطلاق حسين ثورة ضد الدولة العثمانية، مع استثناء مناطق عدة.
وبذلك يتكامل وعد بلفور مع الوعود الأوروبية السابقة، والتالية له، ومع المعاهدات والاتفاقيات التي وقعتها الدول الاستعمارية فيما بينها، وخاصة التي أُبرمت أثناء الحرب العالمية الأولى, بهدف حل المسألة الشرقية، عن طريق تقسيم تركيا، وأهم هذه المعاهدات اتفاقية (سايكس ـ بيكو) واتفاقية (ماكماهون ــ حسين). وبذلك يكمن الدافع الحقيقي لإصدار الوعد، في رغبة الإمبراطورية البريطانية, بزرع دولة استيطانية في بقعة مهمة جغرافيا، لحماية مصالحها الاسـتعمارية، وخصـوصا في قناة السـويس, والطريق إلى الهند. وعقب صدور وعد بلفور كتبت صحيفة «غلاسكو هيرالد»، من وجهة النظر البريطانية، فالدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه، بإقامة شعب في فلسطين ملتصق بنا، وإعادة اليهود إلى فلسطين تحت الرعاية البريطانية يضمن ذلك.
فالصهيونية السياسية، عملت منذ البداية على الارتباط مع المحاور الامبريالية الاستعمارية. مما يبرز أهمية الربط ما بين وعد بلفور، واتفاقية سايكس بيكو ، وأهمية انشاء وطن قومي يهودي في فلسطين لخدمة المصالح الامبريالية، التي قدمت كافة أشكال الدعم للحركة الصهيونية، والتي استثمرت كل ما قدم إليها، وكرسته لتحقيق الأهداف التي حددتها من قبل. وبالتالي يتسلسل التدرج من عقد المؤتمر الصهيوني الاول 1897، إلى عقد مؤتمر لندن 1907 او ما عرف بـ مؤتمر كامبل بنرمان إلى اتفاقية سايكس بيكو، ومن ثم وعد بلفور، وصولاً إلى صك الانتداب 1922، مسبوقا بعقد مؤتمر سان ريمو في 25/4/1920 الذي صادق على وعد بلفور.
اشتمل صك الانتداب على فلسطين، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز 1922، على التزام بريطانيا بتنفيذ المشروع الصهيوني، وفق العبارات المبينة في وعد بلفور. وفي عام ١٩٢٢ أصدر ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني «الكتاب الأبيض»، أكد فيه على إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وضرورة زيادة هجرة اليهود إلى فلسطين. وبصدور صك الانتداب الذي نجحت بريطانيا في إقراره في عصبة الامم، ونفذ في فلسطين عام ١٩٢٣، تحول المشروع الصهيوني إلى مشروع دولي، بعد تبني عصبة الأمم له، ونصت بنوده على تكليف بريطانيا، الدولة المنتدبة، بتنفيذ وعد بلفور، ومنح الوكالة الصهيونية حق التعاون الاقتصادي مع حكومة الانتداب، والسماح لها باستثمار مرافق البلاد الطبيعية، وتعهد الحكومة المنتدبة بتسهيل هجرة اليهود، على أن لا تلحق الأذى بحقوق سكان البلاد.
وفي عام 1948، سلّمت بريطانيا الأراضي الفلسطينية لـمنظمات صهيونية مسلّحة، التي ارتكبت المجازر المروعة بحق الفلسطينيين، ودافعة إياهم للهجرة من أراضيهم، من أجل تأسيس دولة الاحتلال الاسرائيلي عليها، بعد السيطرة على ثلاثة أرباع أراضي فلسطين. في حين حكمت الأردن الضفة الغربية، خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وفي عام1967 احتلت إسرائيل الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية)، وقطاع غزة، مع شبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان، في سعي لفرض أمر واقع.
تطلعات الحركة الصهيونية، ووعد وزير الخارجية البريطاني جسدا نقطة التقاء، بين المصالح الاستعمارية والصهيونية، ومخططاتهما في إقامة دولة، تشكل جسراً للمصالح الاستعمارية في الوطن العربي، وعائقا أمام وحدته ونموه وتطوره، بما يبرزه كلاعب قوي على الساحة الدولية، وانهاكه في حروب تستنزف طاقاته وقدراته وموارده، وإيجاد معوقات تكرس الوضع الذي أوجدته اتفاقية سايكس بيكو، بما يحول دون تقدم الكيانات المصطنعة من التقدم خطوة إلى الأمام.
وإذن فإن الخطوات السابقة بالتكامل مع وعد بلفور، أفضت إلى الواقع المأساوي، الذي تمثل في حدوث ما سمي بالنكبة عام 1948، وما نجم عنها من مآس واشكاليات، يعتبر حاضرنا الراهن بكل تشعباته وتعقيداته نتاجا لها، ومولد قضية اللاجئين الفلسطينيين المشردين، والمشتتين في مخيمات اللجوء.