هل يفرض التطبيع «الصفقة» على الفلسطينيين؟
2020-09-14
جاء الاتفاق الإماراتي، ومن ثم البحريني، مع إسرائيل، بعد سلسلة خطوات تطبيع رسمية عربية مع دولة الاحتلال. وكانت مطلوبا أن تكون هذه الخطوات معلنة بحكم موقعها ووظيفتها في سياق تطبيق صفقة ترامب ـ نتنياهو وفق مسار «الحل الإقليمي»، الذي يشكل أساس الصفقة بخصوص حل الصراع الفلسطيني/ العربي ـ الإسرائيلي.
هذا الاتفاق، وما سبقه وما سيلحقه من إجراءات مماثلة، يهدف، من ضمن وظائفه، وضع العمل الوطني الفلسطيني أمام خريطة مختلفة من المواقف العربية الرسمية التي كانت مصنفة على أجندة العمل الوطني الفلسطيني في خانة الدعم السياسي والديبلوماسي في محطات كثيرة قادته للمواجهة مع مشاريع أميركية إسرائيلية طرحت في الأمم المتحدة وفي غيرها من الأروقة السياسية الدولية. وشكل الدعم الرسمي العربي في هذه المحطات رافعة مهمة، إلى جانب دعم الدول والمنظمات الإقليمية والدولية الصديقة، في تحجيم هذه المشاريع وإعادة وضع القضية الفلسطينية في سياقها القانوني والسياسي الذي وضعته قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وأبرز مثال على ذلك رفض الموقف الأميركي بخصوص الأونروا والاستيطان في مجلس الأمن والجمعية العامة، أي أن الخريطة الرسمية العربية المستجدة لن تقوم بهذا الدور في محطات مقبلة من المواجهة السياسية والديبلوماسية مع العدوين الإسرائيلي والأميركي.
ويؤشر إلى صحة هذا الاستنتاج المؤسف رفض مؤسسة الجامعة العربية اتخاذ موقف من هذا الاتفاق ربطا بقرارات قممها المتعاقبة، التي شددت على رفض التطبيع وربطت العلاقة مع إسرائيل بإنجاز تسوية سياسية تحقق طموحات الشعب الفلسطيني الوطنية. وهذا يعني أيضا أنه من الممكن أن تحاول هذه المؤسسة عزل الصوت الفلسطيني فيها وإظهاره كخارج عن «الإجماع العربي»، وسط حمى التطبيع التي تجتاح عددا من الدول العربية وسط صمت وتواطؤ الآخرين.
فهل سيؤدي هذا التبدل الكبير إلى إضعاف الموقف الفلسطيني الرافض لـ«الصفقة» إلى الحد الذي يجعله يقبل بها تحت عناوين مختلفة، أم أن تداعيات التطبيع وجهاته أضعف من أن تغير فعليا في مساحة وثقل المواقف الرافضة التي تواجهها «الصفقة» على يد الاجماع الفلسطيني وأطراف مهمة في المجتمع الدولي.
يمكن القول إن ترسيم التطبيع الرسمي العربي من خلال اتفاقات شراكة أمنية وسياسية واقتصادية مع واشنطن وتل أبيب يدشن مرحلة مختلفة ينتقل فيها المطبعون إلى الخندق المضاد بشكل سافر. ولا يغير من هذا الاستخلاص تصريحاتهم المتكررة عن تمسكهم بـ«حل الدولتين»، لسبب واضح وهو أن هذا «الحل» كان منذ طرحه يافطة «خادعة»، في ظل واقع تقوم فيه على الأرض دولة واحدة هي دولة الاحتلال التي تتمدد باستمرار نحو تجسيد «إسرائيل الكبرى»، الأمر الذي يغيب تماما المسألة الجوهرية المطلوبة قيام الدولة الفلسطينية على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا خطان متعاكسان لا يمكن تجسيدهما معا، وخاصة أن تصريحات المطبعين «تصدح» من على منصة صفقة ترامب ـ نتنياهو، التي يشكل تشريع الاستيطان والتهويد والضم أبرز عناوينها بخصوص مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 67.
ومع انضمام المطبعين إلى الخندق المعادي، تراهن واشنطن وتل أبيب الآن على اتساع هذه الدائرة وتعميمها لتصبح هي المشهد الرسمي العربي الطاغي، بما يستبدل «الصراع» بـ«التفاهم» عند الحديث عن العلاقات العربية الرسمية مع دولة الاحتلال. وبالتالي، ينشأ موقف رسمي عربي جماعي يضغط على الفلسطينيين كي «يعقلنوا» مطالبهم، ويقبلوا بالحلول التي يسمح بها منسوب ميزان القوى الحالي مع الاحتلال وحلفائه. وهذا يعني أن القائمين على المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي يرون أن اتفاقات الشراكة العربية الرسمية المتتابعة مع الاحتلال، وتواطؤ مؤسسة الجامعة العربية، ستضع الفلسطينيين في موقف صعب للغاية، وخاصة إذا تم لجوء المطبعين والمتواطئين معهم إلى الضغوط المالية والاقتصادية والإدارية على الفلسطينيين لحملهم على تغيير موقفهم من الصفقة.
بالمقابل، دفعت خطوات المطبعين الأخيرة مكونات الحالة السياسية الفلسطينية نحو اتخاذ خطوات جديدة من بينها الاجتماع الذي ضم الأمناء العامين للقوى والفصائل، والذي خرج بقرارات متقدمة من شأن تنفيذها أن ينقل الرفض الفلسطيني للصفقة وأهدافها من خانة إعلان الموقف إلى دائرة مواجهتها في الميدان والسياسة. وكان واضحا في هذه القرارات أن خوض هذه المواجهة يتطلب بالضرورة اتخاذ خطوات عملية موحدة تضع جميع الإمكانات الفلسطينية السياسية والشعبية المتاحة في خدمة هذه المواجهة، والقطع تماما مع استحقاقات الخيارات السابقة بخصوص العملية السياسية، ووضع ملف الانقسام على سكة الحل باستعادة الوحدة السياسية والتنظيمية والميدانية في سياق المواجهة.
لقد شهد النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي محاولات إقليمية ـ عربية ـ دولية لتهميش العامل الفلسطيني في معادلات المنطقة، وإنعاش مشاريع تهدف إلى شطب إنجازات النضال الوطني الفلسطيني وخاصة حق تقرير مصيره ووحدانية تمثيله عبر منظمة التحرير الفلسطينية، بعد انتصاره على مشاريع طمس هويته الوطنية التي نشطت عقب النكبة. وكان الرد الفلسطيني على ذلك بانتفاضة شعبية عارمة وشاملة ومتصاعدة اشتعلت في أواخر العام 1987 أجبرت المجتمع الدولي وقبله دول المنطقة على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير.
وعلى الرغم من اختلاف الظروف منذ ذلك الوقت، إلا أن التجربة القريبة والبعيدة أكدت أهمية العامل الفلسطيني في إيقاف أو لجم الكثير من المشاريع التي استهدفت شطب القضية الفلسطينية، شرط أن يكون العمل الفلسطيني في المواجهة موحدا على الصعيدين السياسي والشعبي وعبر قيادة وطنية موحدة، وتحت راية البرنامج الوطني التحرري في العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعدوان 67 وعاصمتها القدس الشرقية.