■ عندما ذهب أنور السادات إلى معاهدة كامب ديفيد، في صلح و«سلام» منفرد مع دولة الإحتلال الإسرائيلي، اهتزت المنطقة العربية واشتعلت نيران الغضب في كل مكان، وتداعت القوى السياسية إلى التحرك من أجل إغلاق الطريق أمام مشروع كامب ديفيد، وتشكلت في السياق جبهة الصمود والتصدي، في القلب منها منظمة التحرير الفلسطينية.
رد الفعل الجماهيري على المستوى العربي والمسلم كان صاخباً، في تظاهرات ومهرجانات وبيانات، ودعوات لمقاطعة النظام الساداتي، بما في ذلك تعليق عضوية «الأخ الكبير» (مصر) في جامعة الدول العربية، التي أغلقت مقرها في العاصمة المصرية القاهرة، وانتقلت إلى تونس، وتولى الأمانة العامة شخصية تونسية بعدما كان هذا المنصب حكراً على شخصية سياسية مصرية.
صارت كامب ديفيد حدثاً أكبر من أن يستوعبه العقل السياسي العربي آنذاك، منذ أن نزل السادات في زيارة إلى إسرائيل، مروراً بمفاوضات «السلام» مع إسرائيل، إنتهاء باحتفال التوقيع على المعاهدة، كان شريكه فيها مناحيم بيغن شخصياً، دون أن يتخلى عن عنجهيته الصهيونية، متفاخراً بأنه اصطاد السمكة العربية الأكبر، وأنه احبط نتائج حرب تشرين (1973)، وأنه اخترق جدار التضامن العربي، معتبراً في الوقت نفسه أن قاطرة كامب ديفيد سوف تجر الحالة العربية وراءها، عربة وراء عربة، وأن الحديث عن حل شامل للصراع العربي الإسرائيلي، في وفد عربي موحد، تحت سقف جامعة الدول العربية، أصبح من الماضي.
حفلت الصحافة، ووسائل الإعلام بإدانة كامب ديفيد، والتأكيد على الصمود، ورفض «الحلول المنفردة»، وربط حل الصراع العربي الإسرائيلي بحل القضية الفلسطينية وفق البرنامج الوطني، وإنسحاب إسرائيلي شامل من كامل الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967.
■ ■ ■
من المفيد أن نتذكر هذا كله مع صدور البيان الثلاثي الأميركي الإسرائيلي الإماراتي في 13/8/2020 معلناً ولادة شراكة إسرائيلية إماراتية، على كل المستويات السياسية والإقتصادية والأمنية والعسكرية، أساسها خطة ترامب – نتنياهو لحل القضية الفلسطينية وتصفيتها.
وعلى عكس رد الفعل على معاهدة كامب ديفيد، احتفت ردود الفعل العربية بالإتفاق ورحبت به، واعتبرته خطوة مباركة، وأدعت أنه في خدمة السلام (!) وفي خدمة القضية الفلسطينية (:)، بل إن بعض العواصم العربية لم تخفِ لهفتها هي الأخرى للوصول إلى معاهدة شراكة مماثلة مع إسرائيل في أسرع وقت في ظل الرعاية المباركة لإدارة ترامب.
حتى ردود الفعل الشعبية على البيان، إذا ما قورنت بردود الفعل على كامب ديفيد، كانت أقل بكثير، كانت معظمها بيانات إدانة، واستنكار [دون التقليل من أهميتها على الإطلاق] شكلت. مع ذلك، تحدياً وطنياً لحالة عربية رسمية، صارت تتطلع إلى واشنطن، بدلاً من أن تتطلع نحو القدس، وصارت ترى القداسة في البيت الأبيض، أما الأقصى فبات مجرد مسجد، كل الهم بشأنه كان في أن تضمن إسرائيل وأن تسمح للمصلين المسلمين الوصول إليه «بحرية»، مع إغماض العينين عن سياسات تقسيمه زمانياً ومكانياً مع اليهود، ليستعيد بعضاً من أحلام الخرافة الصهيونية عن الهيكل. أما سقف ما يمكن أن يتحقق للفلسطينيين، فهو العودة إلى مفاوضات جديدة، دعت لها وهندست نتائجها المسبقة وخرائطها صفقة ترامب، وخطة الضم الإسرائيلي.
وبدلاً من أن تتوجه الحالة العربية الرسمية إلى أبو ظبي تدعوها للتراجع عن الإتفاق الثلاثي، توالت «النصائح» العربية تدعو الفلسطينيين إلى اغتنام الفرصة وكسب الوقت والعودة إلى أحضان الولايات المتحدة وطاولة المفاوضات.
وبدلاً من أن تدان سياسة أبو ظبي بإعتبارها استهتاراً بمبادرة السلام العربية، التزمت جامعة الدول العربية الصمت، وتعامت عن دعوة السلطة الفلسطينية لإجتماع عاجل لمجلس الجامعة. وكذلك كان رد فعل منظمة المؤتمر الإسلامي.
وهكذا فازت الإمارات بـ«التضامن» العربي، أما السلطة الفلسطينية فلم يصلها كتاب تضامن واحد، من أي من العواصم العربية.
■ ■ ■
لسنا هنا في معرض اللوم، ولا في معرض توزيع شهادات الوطنية أو الإدانات بالخيانة. فالبيانات الصادرة عن الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية (بمن في ذلك البحرينية، والإماراتية، والكويتية) رسمت الحدود المطلوبة.
ولسنا هنا لنحمل المسؤولية لكامب ديفيد، ووداي عربة، وأوسلو، بل لنحاول أن نرسم هذه المسافة الكبرى التي قطعتها الحالة الرسمية العربية، والإنزياح السياسي الكبير في بنية الدولة العربية، ما جعلها تعيد النظر في موقفها من القضية الفلسطينية وحقوق شعبها، ومفهوم الصراع مع إسرائيل، ومفهوم التطبيع، وأسس العلاقة مع الولايات المتحدة، وشروط التبعية لها، وتحولات الصراع في الإقليم، بحيث أعيد النظر بالكثير من المفاهيم والمعايير، والمعتقدات، والمصالح والتحالفات، ما جعل العلاقة مع إسرائيل، مفتاح العلاقة مع الولايات المتحدة (كما هو حال رئيس مجلس الرئاسة في السودان عبد الفتاح البرهان) أو ما جعل إسرائيل ملجأ لحماية دول خليجية بعينها، باتت لا ترى إلا في إيران خطراً عليها، وما جعل (وهنا المسؤولية الفلسطينية الرسمية) ما جعل المفاوضات السلمية سبيلاً وحيداً للحل مع دولة الإحتلال.
فشلت النخب السياسية العربية في بناء الدولة الوطنية، وفي بناء مشاريع التنمية المستقلة، مستفيدة من الموارد الغنية الطبيعية والبشرية التي تتمتع بها دول المنطقة، من مشرقها إلى مغربها.
كما فشلت النخب السياسية في الفصل بين الدولة والنظام، بحيث باتت مصلحة النظام هي المعيار، ومصلحة النظام هي مصالح القوى المتسيدة على رأس الدولة، في ظل مؤسسات شكلية، عاجزة عن التمثيل الحقيقي لمصالح المجتمع ومتطلبات تطويره.
وفي ظل انزياح سياسي خضع لتلبية مصالح نخب سياسية فاسدة، افتقرت إلى المشروع الوطني، وتخلت عما كان يسمى «المشروع القومي »، حصلت التحولات، وبات الفارق واسعاً، بين ردات فعل ولادة كامب ديفيد، وردات فعل ولادة البيان الثلاثي.
الكرة في ملعب الحالة الفلسطينية.
هكذا كانت وستبقى.
الكرة في ملعب القوى العربية الوطنية والديمقراطية واليسارية.
هكذا كانت وستبقى.
والمعركة مازالت مفتوحة على مصراعيها.■