الجاليات الفلسطينية... «حصان من ذهب» مصقول بالوطنية
2020-07-15
لطالما حفلت الأساطير التاريخية بأحداث وتفاصيل وشخصيات مليئة بالعبر والحكم، التي حافظت عليها الأجيال وتناقلتها، لما تحتويه من دروس يستفاد منها في عالمنا المعاصر. وحملت هذه الشخصيات والاحداث الأسطورية على الدوام معاني ورمزيات، تصلح لأن تكون مقياسا لأحداث حصلت وتحصل في أيامنا، ومن اشهر الرمزيات الأسطورية التي تجسدت في هذه الروايات التاريخية، هو "الحصان الخشبي" الذي غير مجرى معركة، وهي واحدة من ابرز المعارك في الروايات الأسطورية. إذ يحكى ان الخديعة الاغريقية التي ابتكرها القائد العسكري "إيبيوس"، والتي نفذت في ثلاث أيام، أدت الى سقوط طروادة المحاصرة، التي صمدت 10 أعوام، أمام اصعب حصار عسكري فرض على المدينة، وبعد ان يأس الجيش الاغريقي، من محاولاته المتكررة لهزيمة الطرواديين واقتحام قلعتهم، ولدت على ارض المعركة نظرية "الحرب خدعة"، ليكون نتاجها "حصان خشبي" عملاق اجوف، تسلل الى احشائه مجموعة كبيرة من المحاربين الاغريقيين، بقيادة القائد العسكري "أوديسيوس"، الذي قدم للأمير الطروادي "هيكتور"، على انه "عرض سلام"، ينهي الحرب الدائرة فصولا منذ أعوام متعددة، فما كان من الطمأنينة ونشوة الفوز "الطروادية"، ان تحولت لهزيمة نكراء، وخيبة امل بعد ان فتحت بوابات المدينة، امام "حصان السلام" لتخرج الهزيمة من رحمه، وتعلن نهاية الحفل الأخير!
لم تكن النكبة الفلسطينية الكبرى، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، بحق الشعب الفلسطيني وأرضه عام 1948، نهاية المشروع الصهيوني، الذي رسمت تفاصيله في المؤتمر الصهيوني الأول، في مدينة "بازل" السويسرية في "2981897"، بل شكلت نقطة البداية لمسار "التراجيديا" لشعب اضحى بلا وطن، يعيش حالة "تيه" في المنافي، مشردا في جميع اصقاع الأرض.
فقد راهنت الحركة الصهيونية على إندثار القضية الفلسطينية في بضع سنين، تعقب الإعلان الصهيوني عن انشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، مستندين الى عاملين أساسيين وهما "عامل الزمن"، و"عامل الذوبان"، وعدم القدرة على المواجهة، وكنتيجة مباشرة لهذه المأساة الفلسطينية الكبيرة والمستمرة، هجرت اعداد كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني الى كل اصقاع الارض، الى بلدان الشتات والمهجر، خاصة الى القارتين الأوروبية والأمريكية، اللتين شهدتا حركة هجرة واسعة، وهي بمعظمها هجرة قسرية للأسباب، آنفة الذكر، فكان العديد من الموجات التي تفاوتت اعدادها وحجمها، ولعب العامل السياسي والأمني الدور الأبرز فيها، وهذا ما كون على امتداد هذه القارات جاليات فلسطينية، اخذت بتطوير نواتها شيئا فشيئا. رغم ان هذه الهجرات الكبيرة كانت محط ارتياح لدى العدو الإسرائيلي، الذي كان يراهن على مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، وعامل ارق للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي تخوفت وعلى الدوام، من عملية جراحية، تجريها طبيعة ومتطلبات الحياة في دول اللجوء، تؤدي الى قطع الحبل السري، بين الجاليات الفلسطينية وقضيتها الأم (القضية الفلسطينية).
سارت الامور عكس الارتياح والقلق، وتمكنت جالياتنا من اعادة وصل تاريخها وتراثها بقضيتها، منطلقة من ثابتة ان الانتماء الحقيقي لا تمنعه حدود ولا تحد منه المسافات الطويلة، فرسمت لنفسها مسارا نضاليا على تماس مباشر مع النضال الفلسطيني لتكتمل بذلك صورة النضال الفلسطيني، في المركز، ارض الوطن بقسميه، وفي مناطق اللجوء والشتات والمهاجر. ورغم ذلك، فقد تميزت هذه الجاليات، وعلى امتداد جميع دول المهجر وبرعت في جميع المجالات، التي اثبتت تفوقا في كل الاختصاصات، وشكلت عامل اعمار وتطوير ومساهم في بنية المجتمعات ومؤسساتها ومرافقها، مشكلة حصان "فلسطين الذهبي" العملاق والمملوء بالوطنية الفلسطينية، الذي حمل في داخله، محاربون كنعانيون، مشبعون بحضارة ارضهم وتاريخها، وثقافة شعبهم وتراثه، وهمومهم وطموحاتهم وآمالهم، في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، حاملا في احشائه الاصيلة معاناة متواصلة، وحلما في الخلاص من مسيرة الآلام "والتيه"، التي ارادوها قدرا محتما، على رؤوس شعب بأكمله، على عكس "الحصان الخشبي" الاسطوري، فليس "بخديعة الحرب" ولا بهدف القتل او الدمار، بل "بحب الحياة" "وإرادة البناء" "وتكريس القيم الإنسانية" ، فقد شكل دخول هذا الحصان الذهبي، وعبوره أبواب القلاع، التي راهنت عليها الحركة الصهيونية لعقود من الزمن مفاجئة كبيرة، بعد ان سقطت مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، تحت اقدام الأجيال الفلسطينية، التي رفعت اعلام فلسطين، وصدحت بالحقوق الوطنية الفلسطينية، بلغات مختلفة في معظم دول المهجر، وعلى امتداد القارات الخمس.
لقد لعبت الجاليات الفلسطينية، وعلى مدار سنين الصراع مع العدو الإسرائيلي، دورا رياديا في فضح دجل السردية الصهيونية، وادعاءاتها الكاذبة، التي روجت لها وعلى الدوام، وسائل الاعلام الامبريالية المحكومة من الحركة الصهيونية، وفي نقل معاناة الشعب الفلسطيني، وحقيقة الممارسات الاجرامية، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، ضد الشعب الفلسطيني وارضه، وقد برز هذا الدور من خلال تصاعد حجم التأييد العالمي، للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتعاظم الحركات العالمية، المطالبة بوضع حد لمسلسل الاجرام المتواصل، بحق الشعب الفلسطيني، وهذا ما مثلته حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على "إسرائيل" ال”BDS”، والتي كان للجاليات الفلسطينية، الدور البارز في تطوير اداءها وبرامج نضالها، وخصوصا على الساحة الأوروبية، بالإضافة الى تأييد عددا واسعا من المثقفين والاكاديميين، والادباء والفنانين والرياضيين، الذين تعاطفوا مع القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني.
وتلعب الجاليات الفلسطينية، دورا رياديا غير مسبوق، في استمرار مسيرة النضال المتواصلة، كرأس حربة التصدي للمشروع الامريكي الاسرائيلي التصفوي للقضية الفلسطينية في الخارج، وذلك من خلال الفعاليات والنشاطات الكبيرة، التي اطلقتها الجاليات في معظم دول المهجر، وبشكل خاص في القارة الأوروبية، التي شهدت معظم دولها (كألمانيا، إيطاليا، السويد، النرويج، الدانمرك، اسبانيا، النمسا، فرنسا، بلجيكا، هولندا،...إلخ) في الأسابيع الماضية، نشاطا استثنائيا وغير مسبوق، في حجم التأييد والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكان للجاليات الفلسطينية البصمة الرئيسية، في تحريك هذا الموج البشري، الذي خرج في الساحات والشوارع والمراكز التجارية، رافعين الاعلام الفلسطينية، واليافطات المنددة ب"صفقة القرن" ومشاريع الضم الصهيونية، والهاتفين "بالحرية لفلسطين"، وال"عدالة للقضية الفلسطينية"، بالإضافة لمدن عديدة في كندا، كالمظاهرة الكبيرة التي شهدها وسط مدينة "تورونتو" أكبر المدن الكندية، وفي معظم الولايات الامريكية، ودول أميركا الجنوبية والكاريبي، والتي قوبلت بالكثير من الأحيان، بمحاولات تخريب من قبل المنظمات الصهيونية وداعميهم، الا ان الثبات والعزيمة، التي يتمتع بها أبناء الجاليات الفلسطينية، المستندة للحق والعدالة، والمدعومة بتأييد وتضامن كبير من المجتمعات المحلية، أدت الى افشال جميع هذه المحاولات.
كما تعددت المبادرات، التي اطلقتها المؤسسات والجمعيات والاتحادات الفلسطينية، التابعة للجاليات الفلسطينية، والتي لعبت دورا مهما، في تحشيد أوسع تأييد سياسي وديبلوماسي للحقوق الفلسطينية، من خلال حملات التضامن، وتوقيع العرائض الرافضة لمشروع الضم الصهيوني، والتي وجهت الى البرلمانات والحكومات والسفارات الامريكية، اذ وقع أكثر من "300" مؤسسة ورؤساء سابقين وقادة، وشخصيات سياسية وثقافية وأكاديمية، وناشطين ومتضامنين من اميركا اللاتينية، على عريضة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، ترفض "صفقة القرن" ومشروع الضم الصهيوني، والتي تم تسليمها الى منظمة الدول الامريكية، وحقوق الانسان ومجموعة دول "الكاريبي" والدول اللاتينية، والى برلمانات معظم هذه الدول، كما دعا مجلس الشيوخ التشيلي الحكومة التشيلية، الى اتخاذ قرار بمقاطعة البضائع "الإسرائيلية"، الصادرة من المستوطنات الصهيونية، وهنا برز دور ثالث اكبر جالية فلسطينية في العالم، والتي سخرت جميع امكانياتها خدمة للقضية الفلسطينية، ولنا بفريق "بالستينو" التشيلي- الفلسطيني، نموذجا رائدا في حمل اسم فلسطين والراية الفلسطينية في جميع اصقاع الأرض، بالإضافة لتوقيع عددا واسعا من الشخصيات والفعاليات والنشطاء والاكاديميين والمثقفين والفنانين من أبناء الجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة الامريكية على "وثيقة اعلان المبادئ"، التي وضعت الالتزام بدعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، كشرط أساسي لدعم أي مرشح للرئاسة الامريكية، كما هو الحال في القارة الأوروبية، التي شهدت حملات متعددة لتوزيع "بوست-كارد" وجمع التواقيع، وارسال عرائض الاحتجاج، الى البرلمانات والحكومات الأوروبية، والتي جهدت من اجلها الجاليات الفلسطينية، بالتعاون مع جميع المتضامنين مع القضية الفلسطينية، بالإضافة لدعوة بعض الأحزاب الأوروبية والمبادرة لتنظيم فعاليات ونشاطات دعما للقضية الفلسطينية انطلاقا من تبنيها للرواية الفلسطينية التي بذلت الجاليات جهدا مضاعفا في نشرها والترويج لها، مشكلة أداة ضغط شعبي، زاد من حجم التأييد السياسي والديبلوماسي الغير مسبوق للقضية الفلسطينية، والذي برز بمواقف (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وحكومات معظم الدول الأوروبية) التي رفضت بشكل قاطع مشروع الضم الصهيوني، وأكدت التزامها بتطبيق قرارات الشرعية الدولية.
لقد كسب هذا الحصان الذهبي المصقول بالوطنية الفلسطينية، رهان السباق مع الزمن ورهان شعبه العظيم، واستطاع بعزيمته واصالته ان يفشل جميع الرهانات، عن الذوبان في تفاصيل "الاندماج السلبي"، الذي ينسيه قضيته الوطنية، والذي يفصله عن هموم شعبه ومشروعه الوطني، فالجاليات الفلسطينية اليوم، هي الرئة الفلسطينية، التي يتنفس من خلالها المرابطون، في شوارع القدس وبيوتها العتيقة، والمتجذرون في اراضيهم المحتلة عام 1948 الذين يقاوموا مشروع القومية اليهودية بإرادة صلبة، والصامدون بوجه مشاريع الاستيطان وسرقة الأرض في الضفة الفلسطينية، والصابرون على همجية الحصار الجائر في غزة الصمود والعزة، والمتمسكون بخيط امل العودة في قلاع اللجوء، ابطال العودة الحتمية، هم القلب النابض للجسد الفلسطيني، الذي انهكته المؤامرات، الذي سيبقى يخفق بنبضات فلسطينية، الى حين تحقيق حلم جميع الفلسطينيين، بانتزاع حقهم في تقرير مصيرهم، على ارضهم وفي دولتهم المستقلة كاملة السيادة، بعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين كما حددتها قرارات الشرعية الدولية.