يزدحم المشهد السياسي بسيناريوهات الضم و«تصنيفاته»، مابين جزئي أو شامل، وبين سريع أو بطيء. وبعضها يتحدث عن ضمين: واحد «رمزي» يقول مقترحوه إنه «سهل الهضم» مقابل الإفراج عن العملية السياسية تحت يافطة «حل الدولتين»، وآخر لايمكن «بلعه»، لأنه يضع كل منطقة «ج» ماعدا سكانها الفلسطينيين على قائمة الضم السريع أو المتدرج.
وهناك من يرى أن المواقف الدولية والإقليمية المعترضة على مخطط الضم قد وضعت حكومة نتنياهو وشريكتها إدارة ترامب أمام حسابات مختلفة تماما تجعل من الرهان مجددا على صيغ الماضي البائس للتسوية أمرا مشروعا.
الثابت في كل ما يطرح اليوم أن الذي يقف على مفترق طرق ليس مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة وأهلها فحسب، بل المشروع التحرري الفلسطيني برمته ممثلا بالأهداف الكبرى التي تجسد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
تابعنا في الأسابيع الأخيرة تحليلات سياسية بالغت في تقدير مساحة الخلافات حول مخطط الضم مابين الحكومة الإسرائيلية ومابين إدارة ترامب وداخل كل منهما أيضا. ووسط هذه الحملة من المبالغات، هناك من قدر بأن الإدارة الأميركية تنظر بارتياح إلى مواقف «كاحول لافان» ممثلة بتصريحات كل من غانتس وزير الأمن واشكنازي وزير الخارجية اللذين أجمعا على أن الضم يجب أن يتم في سياق تطبيق «الصفقة »، وليس مستقلا عنها، ويقصدان تحديدا الجانب الذي له علاقة بـ«الحوار» مع الجانب الفلسطيني. أي ترسيم الضم ضمن «اتفاق» مع الفلسطينيين بعد تقديم عرض مسهب عما «سيحصلون» عليه جراء هذا الاتفاق.
ومع مرور القليل من الوقت، وحتى دون ذلك، كان واضحا أن مبدأ الضم موضع إجماع داخل الحكومة الإسرائيلية وداخل الإدارة الأميركية وفيما بينهما. والتباين يدور فقط حول مسألة المشاركة في ترسيمه (إقليميا وفلسطينيا)، وعلى ضوء تحديد هذه المشاركة توضع آليات التطبيق وأجندته الزمنية، وتفضل إدارة ترامب أن يحدث هذا بأقل ضجة ممكنة، حتى نهاية الانتخابات الرئاسية الأميركية على الأقل. وقد توافق عدد من المحللين السياسيين الإسرائيليين مع هذا التقدير موضحين أن خسارة ترامب وفوز منافسه بايدن يشكل ضربة كبيرة إلى مخطط الضم برمته، وبالتالي ينبغي نزع ملف «الضم» من أيدي «الديمقراطيين» في معرض هجومهم على سياسات ترامب، وقد شهدت الفترة القريبة الماضية نشاطا ملحوظا للحزب الديمقراطي في معارضة مخطط الضم تصدره أعضاء في مجلسي النواب والشيوخ، وقد أحدث صدى مقبولا لدى الاتحاد الأوروبي وغيره من الأطراف.
ومع عدم الاعلان الإسرائيلي «الرسمي» عن الشروع بتنفيذ مخطط الضم، يسعى نتنياهو للتأكيد أمام جمهور اليمين الصهيوني على قضايا عدة :
• أن تمسكه بالمخطط ومبادرته تحديد موعد تنفيذه يؤكد «حرصه» على التعجيل بقيام دولة إسرائيل الكبرى، وأن أي تأجيل يقع ينحصر بالإعلان الرسمي ولا يتصل بوقف الإجراءات التي تعمل عليها الحكومة على الأرض في تنفيذ المخطط.
• إسراع غانتس واشكنازي للتأكيد على ربط مخطط الضم بجميع محاور«الصفقة» ،يؤكد صحة موقفه بوضعهما خارج الشراكة الفعلية في تحديد مسار تطبيق المخطط، وسيعمل على تظهير موقف الوزيرين باعتباره يتعارض مع مصالح المستوطنين وعموم جمهور اليمين، وهذا يساعده في تغطيه موقفه لاحقا في حال قرر قلب الطاولة في وجه «كاحول لافان»، حتى ولو أدى ذلك إلى انتخابات مبكرة جديدة.
• الحديث عن اعتبارات سياسية وانتخابية لدى إدارة ترامب تؤثر على آليات الضم وأجندته الزمنية ،هو تأكيد يسعى نتنياهو لتسويقه ويدل على أن هذا المخطط عنوان أساسي في مشروعه السياسي، وأن الرؤية الأميركية «الجديدة» هي من انضم لمشروعه وليس العكس.
على الجانب الفلسطيني، وعلى هامش «يوم الغضب» الذي أعلن يوم الأول من هذا الشهر، ثمة محاذير من عدم الامساك بالمسار الصحيح وسط هذا السيل الجارف من السيناريوهات والتحليلات والعروض. وتدل التجربة أنه كلما تصاعد الحديث عن تباين ما بين واشنطن وتل ابيب مهما كان محدودا وجزئيا في مايتصل بالملف الفلسطيني، كلما كثر عدد الذين يقرؤون هذا التباين الشكلي باعتباره تناقضا جوهريا بين الطرفين، وانه من «النباهة» و«الحكمة» التقاط هذه الفرصة والدخول على الخط، عبر تجديد الرهان على إحياء عملية التسوية بالشروط السابقة والتي عادت على الشعب الفلسطيني ،منذ الدخول فيها، بكوارث سياسية واقتصادية وأمنية نعيش تداعياتها يوميا.
فـ«الرباعية الدولية» ليست عنوانا صالحا لرعاية التسوية، كما أن ترسيمها من قبل الأمم المتحدة لايعني أنها ملتزمة قراراتها ذات الصلة، لأن مهندسي عملية التسوية أقصوا هذه القرارات عن أسسها وأبقوا مسارها ومآلاتها معلقة بقرار الراعي الأميركي المتحالف مع دولة الاحتلال.
والأهم من ذلك، أن معركتنا في هذه المرحلة الصعبة والمفصلية هي أن «نكون أو لا نكون» كشعب وحركة تحرر وطني على طريق إنجاز البرنامج الوطني التحرري وتحقيق أهدافنا الوطنية، وليس« نكون أولا نكون» على طاولة المفاوضات. لقد حددت جميع الأطراف خياراتها وفقا لمصالحها:
• فحكومة الاحتلال ماضية قدما في مخطط الضم عبر الآليات والسيناريوهات والأهداف التي وضعتها، ولايمكن الحديث فعليا عن أي تعديل وقع في هذا المسار لأن تفاصيله لم تعلن بالأساس،كما أن التبديل في أولويات التنفيذ ليس هزيمة للمخطط، وليس انتصارا للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني.
• وإدارة ترامب قدمت للمشروع التوسعي الاستعماري الإسرائيلي «خدمة العصر»،فمكنته من تظهير مشروع الضم وإقامة دولة إسرائيل الكبرى إلى العلن والمطالبة بكل وقاحة من المجتمع الدولي قبوله ومباركته ، بينما كانت دولة الاحتلال «تمرر» نشر وحدات الاستيطان بالخفاء ودون إعلان في بداية احتلالها الضفة وقطاع غزة في عدوان العام 1967.
• وأعلنت مكونات الحالة السياسية الإقليمية مواقفها التي تراوحت بين التواطؤ وعدم الترحيب والرفض، كل حسب اعتباراته ومصالحه، مع إدراكنا أن مخطط الضم كما «الصفقة» برمتها، ضد المصالح الوطنية لدول المنطقة وشعوبها.
وإذا كانت مكونات الحالة السياسية والشعبية الفلسطينية أجمعت على رفض صفقة ترامب ـ نتنياهو وعلى مخطط الضم الاستعماري، فإن الحلقة المتتمة لهذا الرفض والتي تعطيه الجدوى العلية هي مقاومة الصفقة والضم في الميدان والسياسي وطي مجرد الحديث عن التفاوض مع عدو منهمك في تنفيذ قراره : شطب حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته■