■ يدعونا لطرح هذا السؤال أن السلطة ما زالت في مواجهة صفقة ترامب – نتنياهو، ومشروع الضم وتطبقاته، عند حدود الرفض الإعلامي، اللفظي، دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في استكمال تطبيق قرار 19/5 بالتحلل من الإتفاقيات والمعاهدات والتفاهمات مع الجانب الإسرائيلي، وسلطة الإحتلال.
ولعلها، ولكي تغطي على تلكؤها، وترددها، في التقدم إلى الأمام، في المجابهة الشاملة للإحتلال ومشاريعه، تراها تلجأ إلى خطابات وبيانات صاخبة، كلها تحمل في طياتها علامات سياسة رد الفعل، وتفتقر إلى تعبيرها عن خطة متكاملة، خاصة وأنها خطابات وبيانات متناقضة فيما بينها، ليس بين متحدث وآخر، فحسب، بل وعلى لسان المتحدث الواحد أحياناً، ما يعكس عمق حالة الإرباك والإرتباك لدى السلطة، حتى أننا بإمكاننا أن نصف سلسلة التصريحات هذه، خاصة تلك التي صدرت نهاية الشهر الماضي، وعشية الموعد المفترض للإعلان عن الضم رسمياً، أنها تصريحات تعكس انهيار أعصاب السلطة، ومدى حشرتها السياسية، وإعترافاً بعمق أزمتها، بحيث أخذ المتحدثون باسمها يطلقون صيحات هوجاء هنا هناك، لا مبالغة في القول إن بعضها أثار سخرية الرأي العام.
أحد هذه التصريحات، حمل «تهديداً» لسلطة الإحتلال بأنها، إن هي نفذت خطة الضم، ستجد نفسها ملزمة بجميع النفايات وأكياس القمامة في أنحاء الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، في إشارة واضحة إلى أن السلطة الفلسطينية، في واقعها الحالي، هي التي تقوم بهذه المهمة، جميع القمامة، وأن حل السلطة وإنهيارها سيبعد هذه المهمة إلى عاتق سلطة الإحتلال.
هكذا فجأة تتحول السلطة من «السلطة الوطنية الفلسطينية»، ومن «نواة الدولة الفلسطينية المستقلة» ومن «المرحلة الإنتقالية على طريق قيام الدولة الفلسطينية»، إلى مجرد عمال نظافة وظيفتهم جمع القمامة.
ترى لو أن معارضاً كتب هذا الكلام على مدونة في وسائل التواصل أو في مقال، لاعتقله الأمن الفلسطيني بتهمة تحقير السلطة وتحقير المشروع الوطني؛ وتحقير رئاسة السلطة.. فكيف يجوز لمسؤول كبير في منظمة التحرير الفلسطينية أن يتفوه بهذا الكلام، دون حسيب أو رقيب. هذا أولاً.
ثانياً: هذا يدعونا لإعادة طرح السؤال: ما هو فحوى هذه السلطة، هل هي مجرد إدارة ذاتية على السكان لتنوب عن الإحتلال في إدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة والقطاع، نيابة عن الإدارة المدنية الإسرائيلية؟ حدود صلاحياتها ودورها ومساحة «ولايتها» الإدارية، ترسمها سلطة الإحتلال، كما يعرفها إتفاق أوسلو نصاً، أم أنها كما كان يدعي البعض أنها مشروع الدولة الفلسطينية ونواتها والمرحلة الإنتقالية نحو تجسيد الدولة؟.
ثالثاً: لماذا المكابرة والعنجهية عند مخاطبة الرأي العام الفلسطيني، وعند مناكفة القوى الفلسطينية، خاصة المعارضة منها، عند نشوب الخلاف السياسي، ولماذا هذا «الهوان» وهذه «المهانة» و«التذلل» عند مخاطبة الجانب الإسرائيلي؟.
أليس في هذا إرباك وإرتباك؟ وألا يدلل هذا على انهيار أعصاب السلطة التي بدلاً من أن تتفاخر أنها مكلفة بموجب أوسلو بجمع القمامة، أن تتفاخر أن شعبها، الذي قدم تضحيات كبرى، لن يسمح لعقارب الساعة بالعودة إلى الوراء، ولن يتخلى عن سلطة تدير شؤونه، تكون حقاً ملزمة بتأمين إحتياجات صموده، بتكليف من م.ت.ف، في معركة الإستقلال التي باتت مفتوحة على مصراعيها.
* * *
يتردد في مناطق السلطة أنه، حين يعلن الإحتلال تطبيق الضم والشروع في تنفيذه، فإن السلطة تنوي جمع السلاح من يد أجهزتها الأمنية وإعادته للإدارة المدنية للإحتلال، كإعلان عن تخلي السلطة عن دورها الأمني كما جاء في إتفاق أوسلو.
وقد لقي هذا الموقف المفترض للسلطة (أي تسليم السلاح لإسرائيل) ترحيباً من بعض الأصوات هنا وهناك، بإعتباره «موقفاً شجاعاً»، يعيد المسؤولية عن الأمن لإسرائيل، ويعفي السلطة من مسؤوليتها عما سيحدث من «فوضى».
الغريب أن من يرحب بالقرار (المفترض) يدرك جيداً أنه ستحدث «فوضى» (مع الإعتذار من الشعب الفلسطيني حين يوصف نضاله بأنه «فوضى») وأن «الفوضى» هنا هي الإصطدام بالإحتلال، إما عبر تحركات شعبية صاخبة، يلجأ فيها الشبان إلى كل أشكال الصدام في الشوارع، أو أنها «فوضى» مسلحة قد تلجأ إليها بعض الأطراف أو المجموعات أو القوى أو حتى أفراد لا إنتماء حزبياً لهم.
كنا نعتقد أن وقف التنسيق الأمني لن يقف عند حدود وقف الإتصالات مع سلطة الإحتلال، بل سيتمدد إلى ما هو أبعد من ذلك، أي توفير الحماية للفلسطينيين ضد غزو الإحتلال للمدن والبلدات الفلسطينية. لكن إعفاء الأجهزة من هذه المهمة يبدو لنا «مفهوماً» في سياق رفض السلطة أي نشاط يتجاوز «المقاومة الشعبية السلمية»، أي مهرجانات، وخطابات، ومسيرات غضب، وبيانات ويافطات، لم تلق حتى الآن أي تعليق من دولة الإحتلال، ولم ينتبه لها نتنياهو لأنها لم تضعه أمام الخيار الصعب: لن يمر الضم دون ثمن باهظ سيدفعه الإحتلال. ثمن غالٍ جداً، بما يتناسب وقيمة الأرض الفلسطينية، وبالتالي يقف نتنياهو أمام خياراته، التي وقف فيها رؤساء حكومات قبله، وقادة عسكريون قيله، منهم رابين الذي أدرك «بحنكته» العسكرية والسياسية أن لا حل للصراع مع الفلسطينيين إلا سياسياً. ونعتقد أنه لينجح الشعب الفلسطيني في فرض «حله» السياسي، وليس الحل الأميركي أو الإسرائيلي، أو حل أوسلو البائس، لا بد من الإنتقال من «السلمية»، نحو الأساليب البديلة.
هنا، يبدو في مستوى الجريمة، قرار تسليم السلاح إلى سلطة الإحتلال. هذا سلاح شعب فلسطين في معركته الوطنية للإستقلال.
فأية حكمة في قرار تسليم السلاح؟ خاصة وأن كثيرين غمزوا من قناة السلطة، بحيث اعتبروها، والحال هكذا، وكيلاً أمنياً للإحتلال وفق عقد، قرار إدامة العقد بيد الإحتلال، أما السلطة فطرف تابع.
* * *
يمكن لنا أن نذكر مواقف إضافية تندرج في سياق المواقف السياسية العبثية للسلطة في ردها على مشروع الضم وتطبيقاته، منها على سبيل المثال، رفع الصوت عالياً بالتهديد والوعيد، أمام وسائل الإعلام، بالذهاب إلى قرارات ومواقف حاسمة ومصيرية، يقابلها الذهاب بصمت إلى «الرباعية الدولية» برسالة تبقى على تعهد السلطة بإتفاق أوسلو (نصاً) وإلتزامها مفاوضات الحل الدائم، كما نص عليها الإتفاق بما في ذلك الموافقة على ضم الكتل الإستيطانية (تحت دعوى تبادل الأراضي على جانبي 4 حزيران)، ومنها التنازل عن حق العودة تحت دعوى «حل عادل وشامل ومتفق عليه» (مع إسرائيل طبعاً) عملاً بما جاء في المبادرة العربية لعام 2002 التي أسقطت بوضوح وصراحة حق العودة.
هذا كله يؤكد (ولا ينبئ فحسب) أن السلطة لم تحسم أمرها، ولم تحسم خياراتها، وأنها مازالت تسبح، كما قلنا سابقاً، في فضاءات أوسلو، وأحلام العودة إلى المفاوضات، وتجنب المواجهة التي من شأنها أن تعيد رسم التوازنات، ليس في العلاقة مع دولة الإحتلال، بل وربما في الحالة الفلسطينية، التي يمكن لها أن تبرأ من فرص الإدعاء بالإنتقال إلى مرحلة بناء الدولة، والإدعاء أن السلطة هي نواه الدولة، وأن تسعتيد حيويتها كحركة تحرر وطني، لشعب تحت الإحتلال، لا يقف صراعه عند حدود ملفات الحل الدائم، أي رسم الحدود، وكأن الصراع بين دولتين متجاورتين، والإتفاق على المياه، وكأنه صراع بين مصر وأثيوبيا، أو لإجراءات الأمنية، وكأن فلسطين أصبحت كوريا الشمالية وأصبحت إسرائيل كوريا الجنوبية.
الحسم، هو في العودة إلى أصل المشكلة، أي التحرر من الإحتلال للفوز بالحقوق المشروعة، في تقرير المصير، لعموم أبناء الشعب الفلسطيني، ولقيام دولة الإستقلال، ولعودة اللاجئين إلى الديار والممتلكات.
الحسم، هو إلغاء أوسلو وقد بات جثة هامدة، لم يعد ممكناً الإعتياش على بقاياه. ومكاشفة الذات وإمتلاك الشجاعة للإعتراف بهذه الحقيقة الصادمة. لقد فشل مشروع أوسلو فشلاً ذريعاً، وبدلاً من أن يقود الفلسطينيين إلى الدولة والخلاص من الإحتلال، قادهم إلى الضم، وشطب القضية والحقوق الوطنية. الحسم، بدلاً من التهديد بحل السلطة، وبدلاً من التهديد، بإعادة السلاح إلى الإدارة المدنية، وبدلاً من التهديد بإعادة المفاتيح (مفاتيح فلسطين) إلى سلطة الإحتلال وبدلاً من الهبوط بالقضية وملفاتها وإختصارها بملف واحد، هو جمع القمامة،..
بدلاً من هذا كله، الإلتزام بقرار المجلس الوطني الفلسطيني، إعلان بسط السيادة الوطنية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في 5 حزيران (يونيو) 67، وعلى هذا الأساس إعادة تحديد العلاقة مع كل من ينتهك السيادة الفلسطينية، أكانت قوات الإحتلال، أم قطعان مستوطنين.
عندها سيكون مشروعاً للفلسطينيين أن يدافعوا عن سيادتهم الوطنية على أرضهم، بكل الوسائل والأساليب والأدوات.
ما عدا ذلك فلا يدل إلا على أن أعصاب السلطة الفلسطينية قد إنهارت، أو هي على وشك الإنهيار■