عن المقاومة وأساليبها والخيارات السياسية
2020-06-20
■ التاريخ حافل بنضالات الشعوب وانتصاراتها حين امتشقت كل أشكال المقاومة لتحرير أوطانها من الكولونيالية الغربية، وإقامة كياناتها الوطنية المستقلة. في مقدمة هذه الشعوب، وفي القلب منها، الشعب الفلسطيني، الذي، وإن طالت قضيته وازدادت تعقيداً، فإنه لا زال مقتنعاً بحقوقه الوطنية المشروعة، وبحقه في النضال، ولا مبالغة في القول، إن الشعب الفلسطيني، في نضالاته الطويلة، شكل نموذجاً، ووهب خبراته لشعوب استطاعت التحرر من قيودها الاستعمارية.
التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني حافل بكل أشكال المقاومة. قاوم نتائج النكبة، ورفض، في ظل تشتت وتمزق اجتماعي رهيب، كل مشاريع التوطين؛ رغم كل ما قدمت له هذه المشاريع من «إغراءات». وصان ذاكرته، وتاريخه، وحاضره، ثم انطلقت حركته الوطنية المعاصرة، وانتقل نضاله من المقاومة الشعبية بالإرادة والثبات، ورفض الحلول البديلة، إلى المقاومة المسلحة، كما عرف الانتفاضة، والإضرابات، والاعتصامات وباقي أشكال النضال والمقاومة، في الميدان، وفي المحافل الدولية، في الإعلام، وفي المدارس والجامعات، والأكثر أهمية في العائلة التي لعبت الدور الأهم، بعد النكبة، في صون الذاكرة وصون القضية.
قبل انطلاقة المقاومة اختار الشعب الفلسطيني أساليبه النضالية بالطرائق والأساليب التي رآها مناسبة. وحتى عندما انطلقت المقاومة المسلحة، لم تنجح في استقطابات المناضلين في صفوفها، بالاستعداد العالي للقتال والاستشهاد، لولا القناعة الجماعية بضرورة الانتقال من المقاومة الشعبية السلبية (الرفض) إلى المقاومة الشعبية الإيجابية (طرح البرامج والمطالب والحلول ورسم الأهداف).
وحتى عندما انطلقت الانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1987، ليس لأنها فقدت قناعتها بالمقاومة المسلحة، بل لحماية المقاومة، التي كانت تعبيراً عن «القضية الوطنية»، ولحماية م. ت. ف. والمشروع الوطني، ولتتكامل أشكال النضال، في الأساليب، والساحات، في ظل البرنامج الواحد، البرنامج المرحلي، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
وبالتالي، كخلاصة، الشعب، بخبرته، وقناعته، وعمق إدراكه، هو الذي يختار أساليبه النضالية، وكثيراً ما فشلت حركات نضالية في اختيار الأسلوب المناسب، في الوقت المناسب، فخسرت تجاوب الشعب، وأجهضت حركتها.
ولنا في التاريخ أكثر من عبرة في هذا المجال.
* * *
نسوق هذا الكلام، في لحظة نضالية فلسطينية مفصلية وشديدة التعقيد، تستوقفنا فيها الدعوات المستمرة للسلطة الفلسطينية وإعلامها الرسمي في الإصرار على التمسك بالمقاومة الشعبية «السلمية»، و«غير العنيفة» و«غير المسلحة».
طبعاً دعوات السلطة، لم تلقَ، حتى الآن، آذاناً صاغية من قبل المجتمع الفلسطيني، في «انتفاضته المجتمعية»، التي تجتاح الضفة الفلسطينية بأساليب نضالية ضد الاحتلال، تستعمل فيها الأشكال المختلفة. وفي كل عملية يختار المقاوم ما يراه مناسباً من أسلوب وشكل لمقاومته.
ونجزم أن خلافنا مع دعوات السلطة، هي في الأساس خلاف سياسي، وليس مجرد خلاف فني أو تقني، فلا نحن، ولا السلطة نملك القدرة على فرض أسلوب نضالي مقاوم على الشعب، ولكن بإمكان كل منا أن يحرض لصالح الأسلوب الذي يراه مناسباً، ليس من موقع تقني أو تكتيكي، بل بما ينسجم مع رؤيته السياسية.
فتمسك السلطة بالمقاومة السلمية (التي لم تقدم لنا نموذجاً ناجحاً لها حتى الآن) يشكل ترجمة لإعتبارها أعمال «العنف»، و«الأعمال المسلحة» شكلاً من أشكال «الإرهاب». لذلك تراها تحرص عند الحديث عن «المقاومة السلمية»، تستطرد لتجدد «ولاءها لمكافحة الإرهاب» (أيضاً دون أن تعرف لنا والإرهاب، وإن كان المعنى بات واضحاً في بطن الكلام وسياقه).
والتزام السلطة برفض «العنف»، يشكل واحداً من تطبيقاتها الميدانية لخيارها للحل القائم على المفاوضات خياراً وحيداً، ورفض الخيارات الأخرى.
* * *
في السياق نضيف أنه لا فصل تماماً، بين الخيار السياسي عبر المفاوضات، خياراً وحيداً، وبين الإلتزامات الأمنية كما صاغتها وثائق التنسيق الأمني بين السلطة ودولة الإحتلال.
ومع أن السلطة أعلنت «تحللها» من الإلتزامات الأمنية مع الجانب الإسرائيلي إلا أنها في الممارسات العملية، مازالت تلتزم إستحقاقات التنسيق الأمني.
لذلك نعتبر أن سلسلة الإعتقالات ذات الخلفية السياسية، في الضفة الفلسطينية (وإن جاءت في سياق رد الفعل على إعتقالات مماثلة في قطاع غزة) تندرج في إطار التزامات التنسيق الأمني. كما نعتبر أن «إجهاض» التحضيرات لأعمال «عنف» ضد قوات الإحتلال والمستوطنين، يندرج في إطار التزامات التنسيق الأمني.
عندما تمّ الإعلان عن «التحلل» من «الإلتزام» بالتنسيق الأمني، توقع المواطنون أن يروا ويتلمسوا نتائج هذه الخطوة. لكن النتائج لم تغير في واقع الحال شيئاً:
• فقوات الإحتلال مازالت تجتاح مدن الضفة وبلداتها وقراها، وتعتقل وتهدم، وتجرف المزروعات، ومازال المستوطنون يعتدون على الفلاحين والبيارات والثروة النباتية، دون تدخل أو رد فعل لا من القوى الأمنية ولا من السلطة الفلسطينية.
• والأجهزة الأمنية في السلطة مازالت تعتقل هي الأخرى، مواطنين فلسطينيين، من بينهم أسرى محررون، ولعل آخر حملة إعتقالات (حتى كتابة هذه السطور) ما قام به جهاز المخابرات في السلطة، وجهاز الأمن الوقائي، اللذان اعتقلا 12 مواطناً فلسطينياً بينهم طلبة جامعيون وأسرى محررون.
إذن كيف تكون السلطة قد أوقفت التنسيق الأمني.؟
وكيف تكون قد تحللت من إلتزاماتها نحو الإتفاقات والتفاهمات مع الجانبين الإسرائيلي والأميركي.؟
لعل مشكلة السلطة الفلسطينية إنها لا تملك رؤية وخطة لمجابهة مشروع الضم وتطبيقاته، لكنها لتغطي على افتقارها لهذه الرؤية، وهذه الخطة، تلجأ إلى مواقف إعلامية، تحاول أن توحي عبرها أنها انخرطت فعلاً في المجابهة وأنها بصدد الخروج من اتفاق أوسلو. علماً أن الواقع اليومي، الذي تعيشه الضفة الفلسطينية يؤكد في كل لحظة، عكس ذلك تماماً.■