لم يعد في المشهد الحزبي والسياسي في إسرائيل مايقلق نتنياهو بشأن مستقبله على رأس هذا المشهد، في المدى القريب على الأقل. وتعزز وضعه مع توقعات باستمرار محاكمته لمدة عامين يكون خلالها قد أنجز ماخطط له على صعيد استكمال مشروعه السياسي وترتيب أوضاع معسكره بعدما نجح في تفتيت خصومه وإضعاف معارضيه.
وفي ظل الحديث الأميركي عن «أهمية» التفاوض والحوار مع الجانب الفلسطيني على أساس الصفقة الأميركية ـ الإسرائيلية، وجد نتنياهو مقاربته الخاصة لهذا الأمر عبر وضع خطوات الضم في مسار مستقل عن «العملية السياسية»، وترك مسألة الحوار مع الفلسطينيين إلى مابعد استكمال مشروعه السياسي حتى لايتبقى على طاولة هذا الحوار ما يعكر صفو مخطط فرض السيادة الاحتلالية على معظم مناطق الضفة الفلسطينية بما فيها القدس.
ويستعجل نتنياهو استكمال مشروعه الاستعماري عبر تنفيذ الخطوات التي يراها ضرورية على طريق إعلان قيام «دولة إسرائيل الكبرى». وسبب استعجاله يعود إلى توجسه من تطورات غير محسوبة تعيق تنفيذ هذا الهدف بالآلية التي رسمها استنادا إلى موافقة إدارة ترامب على مخطط الضم وحماستها له. ولهذا السبب يصر على وضع الكنيست والحكومة أمام ضرورة الإعلان عن الضم بالتاريخ الذي سبق تحديده وهو الأول من شهر تموز القادم.
بالمقابل، تبلور إجماع سياسي وشعبي فلسطيني على رفض الصفقة الأميركية ـ الإسرائيلية. وعلى عدم الرضوخ للضغوط المالية والسياسية التي تمارس على الحالة الفلسطينية بهدف إجبارها على القبول بالصفقة. لكن هذا الرفض لم يتحول حتى الآن إلى برنامج وطني موحد لمواجهة الصفقة وإفشال أهدافها، على الرغم من بعض القرارات التي اتخذت في هذا الاتجاه، ومنها قرار التحلل من الاتفاقات التي عقدت مع دولة الاحتلال، لكن ذلك لم ينعكس بخطوات عملية ملموسة في السياسة والميدان.
وهنا، يلعب مجددا عامل الوقت دورا جوهريا في تثمير مواجهة مخطط الضم ودرء مخاطره باعتباره:
• عنوانا لبرنامج استعماري إحلالي توسعي موضوع على أجندة الحكومة الإسرائيلية منذ سنوات عدة. وتؤكد جميع المعطيات أن جميع الخطوات التي سبقته من نشر الاستيطان وحملات التهويد والتطهير العرقي إنما كانت تمهيدا ممنهجا للوصول إلى عتبة الشروع بإجراءات الضم.
• وهو ليس فقط ركنا أساسيا من أركان صفقة ترامب ـ نتنياهو، بل هو الصفقة بحد ذاتها بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ومن خلاله يستطيع التقدم نحو تجسيد دولة إسرائيل الكبرى (من البحر إلى النهر) من زاوية بسط السيطرة «السيادية» على الحدود الشرقية لفلسطين.
• وهو«الحل» الإسرائيلي العملي الذي يجعل من هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة بعاصمتها القدس في خانة المستحيل. ويوجه ضربة قاصمة للبرنامج الوطني الفلسطيني التحرري.
• وعلى ماسبق، يقلص الكيانية الفلسطينية المتاحة ضمن الحيز الذي لايتعارض مع التوسعية الإسرائيلية من جهة، ويحافظ على تحميل مسؤولية «السكان» الفلسطينيين على عاتق السلطة الإدارية الفلسطينية وعلى نفقة الدول المانحة.
• وعلى ماسبق أيضا، يقطع الطريق نهائيا على أية خطط كانت ترسم لتطوير النشاط الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع إلحاق نحو نصف المنطقة«ج» بالسيادة الإسرائيلية.
ولهذه الأسباب والمخاطر تشكل مواجهة مخطط الضم دفاعا بالأساس عن المشروع الوطني الفلسطيني برمته، وهي معركة كبيرة وصعبة وتحتاج توجيه جميع الإمكانات المتاحة والمستحدثة في خدمة هذه المعركة. ولأن «الصفقة»، وفي مقدمها مخطط الضم عبارة عن مجموعة متكاملة من الاجراءات الاحتلالية أحادية الجانب، فإن مفهوم التفاوض في السياسة والقانون خارج آليات تنفيذها. وما يطرحه مهندسو الصفقة على الفلسطينيين لايتعدى الجلوس إلى طاولة حوار بلا أهداف سوى تسجيل مشاركتهم أمام المجتمع الدولي في مجزرة تصفية حقوقهم. ولايوجد في هذا الظرف الدولي والإقليمي والوضع في دولة الاحتلال مايعطي مشروعية للحديث عن مفاوضات، لأن ذلك بحد ذاته تضييع للجهد الذي من المفترض أن يكرس لمقاومة مخطط الضم.
كما أن النظر للوراء والتعامل مع المرحلة الماضية باعتبارها كانت طريقا صالحا وممكنا للوصول إلى الحقوق هو بحد ذاته تزييفا للحقيقة. فالتغول الإسرائيلي ـ الأميركي على الحقوق الفلسطينية من خلال «الصفقة»، هو تتويج لمعطيات المرحلة الماضية التي تكرست فيها الوقائع الاحتلالية في الضفة والقدس في ظل عملية سياسية غيبت قرارات الشرعية الدولية عن أسسها وبالتالي عن أهدافها.
بالإضافة إلى ذلك، لم تتوفر لهذه العملية السياسية مرجعية أممية تملك صلاحية تصويب مسارها في ظل مضي دولة الاحتلال نحو تحقيق أهدافها التوسعية، ونذكر على سبيل المثال كيف وظفت الولايات المتحدة حضور «الرباعية الدولية» كإطار شكلي من أجل الإيحاء بعدم استفراد واشنطن بمسار التسوية والتحكم به كي لا يصطدم بمصالح الاحتلال. وكان هذا واضحا على نحو مكشوف مع بدء ولاية الرئيس باراك أوباما الذي حاول أن يوهم المفاوض الفلسطيني والأطراف العربية ذات الصلة بالتسوية بأن إدارته تقف إلى جانب إقامة دولة فلسطينية عبر الخطاب الشهير لأوباما في جامعة القاهرة بداية صيف العام 2009.
فقد واكبت «الرباعية الدولية» تصريحات أوباما وسقفت بياناتها المتعاقبة في تلك الفترة بما أعلنه من تصريحات حول ضرورة تجميد الاستيطان ووقف هدم منازل الفلسطينيين. وانكشف دور الرباعية الحقيقي مع تآكل موقف إدارة أوباما مما سبق وتحول ضغطها على الجانب الفلسطيني من أجل إجباره على دخول المفاوضات المباشرة التي افتتحت في بداية أيلول من العام 2010. واللافت أن واشنطن قررت أن دور الرباعية انتهى في هذه العملية لدرجة أنها لم تدعو منسقها توني بلير إلى افتتاح هذه المفاوضات، بعد أعوام كانت فيه «الرباعية الدولية» ظلا للموقف الأميركي.
وربما من الضروري القول إن العامل الفلسطيني المنقسم على ذاته لعب دورا في تجاوز كثير من الأطراف لمسؤولياتها تجاه الموضوع الفلسطيني، دون أن يعني ذلك تبرير مواقفها، لكن خلاصة القول إن تصويب الوضع الفلسطيني ونقل موقف الاجماع الوطني من الصفقة وأهدافها من الرفض إلى المقاومة هو فقط مايمكن أن يفتح الباب نحو وضع المجتمع الدولي والإقليمي أمام مسؤولياته تجاه مايجري على يد الشريكين الأميركي والإسرائيلي■