رشدي أبو مخ (صالح) .. صاحب القلب الدافئ في برد المعتقل
2020-01-21
في أحد أركان المعتقل، يكمن المتنفس الوحيد لتلك العينان المكتظة بالصور، يراها بسطوعٍ أجمل كلما مر فوقها بصيصُ نور، ويحملها معه أينما اتكئ، يعلقها في كل الزوايا، ويثبتها فوق "البرش"، كي يصحو ويملئ ناظريه ليبدو النهار أجمل.
تسائلتُ دائما عن الشيء الذي يقفُ وراء عزيمةِ رجلٍ على أعتاب الستين من عمره للعطاء, للبذلِ دون مقابل، عن إرادة العيشِ لديه، رغم الأربع وثلاثون عاماً من القهر، لم تملّ روحه خدمة رفاقه الأسرى، فأينما وجد العمل وجدته متألقاً وبكامل حضوره، للمريضِ حارس وبالأخص رفاقه المرضى بالسكري، كونه على موعدٍ مع إبرة الأنسولين مرتين في اليوم .. ذهابه وإيابه إلى عيادة السجن طيلة فترة الاعتقال وإصابته بمرض السكري، منحه خبرةً كافية للإرشاد والنصح.
في رفقتهِ ابتسامة يمنحها لكل من تقاربت به عيناه، تحكي .. تبكي .. تقّوي .. تقهر .. تتأمل .. تنتقم .. يتلقى كل صاحب همٍ رسالته من عيناه.
رغم أيامه الكثيرة وأوقاته اللا محدودة التي عاشها بين جدرانٍ كانت شاهدةً على وحدته، استطاع أن يبقى على قيد الوطنـ بانتمائه وعطاءه وتواضعه الذي يذكرنا برفاق الأمس، ممن فاحَ الترابُ بذكرهم الطيب.
لاسمه نصيبٌ من شخصيته؛ رشدي أبو مخ (صالح) المولود عام ١٩٦٢، ابن بلدة باقة الغربية في الداخل المحتل، من الرجالِ القابضينَ على جمرِ النضالِ في زمن الفتور والتخاذل.
على موعدٍ مع الصباح دون كلل، يربط حذاءه استعداداً لكل جديد، يحدِّثُ أخباره بقراءة الصحف، فلا رأيٌ يمر ولا حديثٌ يعبر دون أن تراه عيناه.
رفيقي صالح؛ استمد العزيمة من الذاكرة، عيونه كانت مُعَلَقةً في أحد زوايا الوطن، ذكَّرته دائما بأيام الوطن الجميل.
في ذلك الأسر أبطالٌ ذكرتهم الجدران وبوابات السجن وأسلاكه، حُفِرت ملامحهم في ظلام الزنزانة، شبعت سلاسل العدو من أطرافهم، قيّدت أرجلهم وأيديهم لِليالٍ طوال، ريحُ ذكراهم عبّقت في سماء الطرقات وهم ينتقلون من سجن لآخر، لكن الآذان في الخارج لم تسمع بهم، لم تنطق الأفواه بأسمائهم، بقوا خلف كواليس النضال لسنوات، كأمثال صالح أبو مخ، إبراهيم أبو مخ، محمد داوود "أبو غازي"، وليد دقة، إبراهيم بيادسة، كريم يونس، ماهر يونس وجمعة آدم؛ وغيرهم الكثيرين ممن سيبقى التاريخ يتيما دونهم، مفتقراً للقيّم الإنسانية، ما لم يمنحهم مكانتهم الحقيقية.■