مر نتنياهو بثلاث مراحل منذ عودته إلى مقعد رئاسة الوزراء في العام 2009. في الأولى، تركز طموحه على تثبيت سلطته في حزبه الليكود وإضعاف منافسيه داخله، ومن خلال ذلك، يعزز موقعه في قيادة التحالف الحكومي.
وفي الثانية، كرس جهوده في من أجل فرض استمراره على رأس الهرم السياسي والحزبي في إسرائيل، على أرضية تنفيذ مشروعه الإستعماري التوسعي في القدس وسائر أنحاء الضفة وفي شن الحروب وتشديد الحصار على قطاع غزة.
وفي الثالثة، بدأت مرحلة الدوران في المكان، وأبرز مظاهرها فشله المتكرر في تشكيل حكومته الخامسه. وهو الآن يتسول الحصانه كي يحافظ على فرصته في تحقيق ذلك، في الوقت الذي رأى محللون أن نتنياهو بات أقرب إلى الباب الخلفي، الذي يؤدي إلى أحد مكانين: بيته.. أو السجن.
مالم يتوقعه نتنياهو، أن يكون لـ«القائمة المشتركة»، التي حرض على مكوناتها وعلى ناخبيها، قول الفصل في موضوع الحصانة التي طلبها، والخوض فيها قبل الانتخابات القريبة القادمة بعكس ماكان يأمله ويسعى إليه.فقد فرملت «المشتركة»،مسعى نتنياهو للتهرب من المثول أمام المحكمة أو تأجيل ذلك لما بعد الانتخابات،عندما حسمت باصوات ممثليها هذا الأمر، وبكرت بحثه، بعد أن تعادلت الأصوات في اللجنة المنظمة لعمل الكنيست. وبالتالي بات من الممكن أن يواجه التهم الموجهة إليه بالرشوة والغش وخيانة الأمانة، كما جاء في لوائح اتهام المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، أڤيحاي مندلبليت.
ومآل إليه التصويت في اللجنة المذكورة يؤكد انعكاس قوة التمثيل العربي في لجان الكنيست ووحدة موقف النواب في إطار«المشتركة» كقوة سياسية مؤثرة وحاسمة في الكنيست في ظل التقارب في قوة الكتل السياسية في الكنيست. وهذا يساعد على تحصيل الكثير من مطالب المجتمع العربي الملحة.
وعلى الرغم من أهمية موضوع الحصانة بالنسبة لنتنياهو ومؤيديه، إلا أن دخوله مرحلة الدوران حول الذات يتعلق في جزء كبير منه بالتغيرات التي وقعت في المشهد السياسي والحزبي الإسرائيلي، وخصوصا ظهور قائمة«أبيض ـ أزرق» بقيادة غانتس. واللافت أن القوة الأكبر فيها(«يوجد مستقبل») بقيادة يئير لبيد كانت في إطار التحالف الحكومي الأسبق بقيادة نتنياهو، الذي قام بفصل لبيد قبيل انتخابات العام 2015، في ظل خلافات كبيرة كانت تسيفي ليفني أيضا طرفا فيها.
المهم في الأمر،هو أن خلافات نتنياهو الكثيرة والحادة مع عدد واسع من رؤساء الأحزاب الصهيونية، قد أنتجت في وجهه «جبهة مضادة» تناصبه الخصومة وتسعى إلى إسقاطه. وقد كان هذا شعارا انتخابيا لعدة قوائم خاضت الانتخابات السابقة وماقبلها.ومن الممكن القول إن رفض ليبرمان الدخول في حكومة يقودها نتنياهو وحده إنما يعود، في بعض أسبابه، إلى هذه المسألة، بعد أن كانا حليفين وخاضا إحدى دورات انتخابات الكنيست في قائمة واحدة.
ويمكن القول أيضا إن سياسات نتنياهو الصدامية في العلاقة مع أطراف المشهد السياسي الإسرائيلي كانت أحد أسباب الاستقطاب الحاد الذي يعيشه هذا المشهد. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الاستقطاب على جمهور الناخبين. ولهذا السبب، تصاعدت أصوات عدة تقول إن تشكيل حكومة «وحدة» ممكن في حال شارك فيها«الليكود» بدون نتنياهو. وربما هذا مايفسر الاعتراضات الكثيرة على منحه الحصانة وتطالب المستشار القضائي للحكومة توجيه اتهامات رسمية لنتنياهو من خلال النائب العام.
وتشير جميع استطلاعات الرأي أن لاتغير جوهريا متوقعا في موازين القوى مابين المعسكرين المتنافسين.وفي ظل ثبات مواقف الأطراف من بعضها البعض، فإن الانتخابات ستتحول إلى ظاهرة دورية كل عدة أشهر، وهذا وضع لن يتم احتماله أو السكوت عنه، وخاصة إذا توافرت قناعة شبه عامة بأن المشكلة الأساس تكمن في تمسك نتنياهو بطموحاته السياسية الشخصية.
بالمقابل، مايزال حزب الليكود يتمسك بنتنياهو، ويحيل له الفضل في إنقاذه من الاضمحلال ومن ثم التلاشي. وبوجود نتنياهو على رأسه،بلور«الليكود» مشروعه السياسي والاقتصادي ـ الاجتماعي على المستوى الداخلي الإسرائيلي في ظل تراجع أو تلاشي البرامج الاجتماعية من على أجندة أغلبية الأحزاب وفي المقدمة، التي صنفت سابقا في خانة اليسار الصهيوني.ويزداد تمسك الليكود بنتنياهو مع افتقاد الحزب لشخصيات قادرة على القيادة وخوض التنافس مع الأحزاب الأخرى، وهذه من نتائج سياسة نتنياهو الذي حارب القيادات التي تقف في وجهه وأقصاها من الحزب.
ومع ذلك، من المتوقع أنه في حال رفض الكنيست، قبل الانتخابات القادمة، منح نتنياهو الحصانة، ستجد قيادات الليكود نفسها أمام واقع مختلف وحسابات أخرى.وعلى هذا الأساس ربما تشهد أطراف معسكر نتنياهو حراكا باتجاه الانفتاح على احتمال غياب نتنياهو عن المشهد السياسي.
وفي جميع هذه الظروف، مايزال نتنياهو يدفع بكل قوة تصعيد سياساته التوسعية في القدس وأنحاء الضفة، متجاوزا التحذيرات بضرورة التمهل في ذلك حتى تتبين ولاية محكمة الجنايات الدولية على الأراضي الفلسطينية من عدمها. ومن هذه الزاوية يعمل نتنياهو على تسريع إجراءات ضم المناطق«ج»إلى إسرائيل. وهو هنا يراهن على مايمكن أن تأتي به الضغوط الأميركية على «الجنائية الدولية» بهدف تفريغ إعلان بنسودا من مضمونه التنفيذي. ومن خلال هذا الرهان يحاول أن يعزز فرص حزبه وفرص معسكره بالفوز بأغلبية مقاعد الكنيست دون الحاجة إلى تحالفات من خارج المعسكر أو الخوض مجددا في اقتراح تشكيل حكومة «وحدة» بعد الانتخابات القادمة، وهو يعتقد أن التقدم في مشروع الضم وتوسيع الاستيطان سيحشد له من أصوات المسوطنين مايكفي لتحقيق هذه الفرص.
على الضفة الفلسطينية، يجري الصراع الحزبي الإسرائيلي في بازار يزايد فيه كل طرف على الآخر في استعداده وقدرته على التغول على حقوق الشعب الفلسطيني ونهب أرضه وممتلكاته. مع التأكيد على أن هذا التغول يقع في جوهر برامج هذه الأحزاب ومشاريعها السياسية على الرغم من استخدامه في المعركة الانتخابية.
لذلك، وكما أكد كثيرون، على الحالة الفلسطينية أن تتوقف عند هذه التطورات الخطيرة وتعمل على تدارك الأمر من خلال التوصل إلى استراتيجية وطنية موحدة نواجه فيها مخاطر مشروع الضم وغيره من المخاطر التي يمثلها وجود الاحتلال واستمراره.وهذا مدخل ميداني لتجاوز تداعيات الانقسام والاقتراب عمليا من استعادة الوحدة.