50 عاماً على تجربة عبد الناصر (ثورات وانتفاضات لم تكتمل)
2019-10-28
تمر ذكرى رحيل القائد الوطني القومي الكبير جمال عبد الناصر، وأمتنا العربية تواجه تحديات مصيرية. نستحضر في هذه المواجهة التجربة الناصرية الثرّة، والتي لا يتسع المجال لها هنا. لكن يمكن لنا أن نرسم خارطة طريق وعملية تجديد من حيث المبدأ، تربط الماضي بالحاضر والمستقبل. وأمامنا مشهد الحال العربية الراهنة، وبؤس الحداثة العربية المتأخرة، بسببٍ من أن المجتمعات العربية ما زالت تحكمها علاقات ما قبل الحداثة، فتغيب إلى درجة كبيرة، أشكال سيادة القانون والديمقراطية، والمساواة، والحرية، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية. مجتمعات مشوّهة بممارسات أنظمة شمولية توتاليتارية، أنظمة استبداد وفساد، كوارث وهزائم وطنية وقومية، فقر وجهل وأميّة، حروب داخلية أهلية. صراع محاور إقليمية عربية وشرق أوسطية، وسيادة «ثقافة الإستهلاك» والتبعية والخصخصة، التي لا تتوافق مع مصالح وتطلعات الأغلبية من الجماهير، بل وتتناقض معها.
هنا يحضرنا الزخم القومي الناصري حينذاك. يحضرنا اعلان الجمهورية، حق السودان بتقرير المصير والاستقلال، تأميم قناة السويس، السد العالي، مجمع حلوان للصلب والحديد، مجانية التعليم بكل مراحله...، ونهوض حركة التحرر الوطني العربية، والثورة الفلسطينية، الوحدة بين مصر وسوريا، الثورة الجزائرية، ثورة 14 تموز في العراق، وثورة اليمن.
■■■
تجربة انجازات استراتيجية كبرى، وأخطاء استراتيجية كبيرة خاصة غياب الحياة السياسية والفكرية والحزبية والنقابية على امتداد تجربة عبد الناصر. رحل عبد الناصر فرحل معه المشروع النهضوي المصري والعربي، بدءاً بانقلاب السادات (15 مايو 1971).
الخلاصة الماثلة أولاً: أن التجربة الناصرية أعطت التحولات الكبيرة في أوضاع البؤساء والفقراء المطحونين، في مصر وكل مكان في الوطن العربي، المطحونين تحت الإحتلال الإستعماري وحروب التوسع الإسرائيلي، المطحونين في مخيمات البؤس في اللجوء وعلى أرض الوطن في فلسطين. أما راهناً فإن في جوهر السياق التاريخي في النضال ومن حوله ومعه في الأجهزة البيروقراطية الإدارية والعسكرية والأمنية، تكمن المسألة الماثلة بكيفية تفعيل اتساع دور التيار النهضوي الديمقراطي في عملية النضال الوطني والديمقراطي الفلسطيني – العربي، وثورات عربية لم تكتمل..(راجع كتاب حواتمة: الثورات العربية لم تكتمل.. 5 طبعات/ أيار/ مايو 2015)، وفلسطينية لم تكتمل في يومنا. الفلسطيني من أجل العودة وتقرير المصير، ومن أجل الدولة الفلسطينية المستقلة، انطلاقاً من خلاصات التجربة القومية الناصرية خاصة، والتجربة القومية العربية عامة، بأن الصراع مع العدو الصهيوني، هو بالدرجة الأولى صراع عربي – صهيوني، يقوم جوهر مواجهته على النضال القومي التقدمي ضد نظام العولمة الرأسمالي الإمبريالي، كحليف رئيس لدولة «إسرائيل وزحف استعمار الاستيطان ومشاريع اليمين الإسرائيلي التوسعي نحو «دولة إسرائيل الكبرى» في القدس والضفة الفلسطينية وحصار قطاع غزة».
الاستخلاص الثاني: يتمثل بالمحور الراهن في اهتمامنا؛ ويرتبط بالقضايا الوطنية التحررية والديمقراطية الفلسطينية؛ ارتباطاً بعلاقتها العضوية بحركة التحرر القومي الديمقراطي، وتجارب الثورات العربية التي لم تكتمل منذ يناير 2011 حتى يومنا [كتاب حواتمة: «الثورات العربية لم تكتمل..» خمس طبعات، وكتاب «الأزمات العربية في عين العاصفة» سبع طبعات، وكتاب «الانتفاضة الشبابية» خمس طبعات]، وهو اهتمامنا من موقع التيار الديمقراطي الفلسطيني بالعمق والبعد القومي، وفي نطاق معادلة وحدة واهتمامات وهموم قوى الديمقراطية والحداثة والعدالة الإجتماعية؛ عبر العمل مع أحزابه ومؤسساته ونخبه ومثقفيه ومفكريه، لبناء مركز للحوار تشمل تيارات التحرر والتقدم والحداثة، في مواجهة محاصرة وتطويق الحركات التحررية الديمقراطية في إطارها القطري ... المهمة التي تمليها الحالة القومية المصيرية، وكسر طواحين بحور الدم والخراب بين دكتاتورية أنظمة الإستبداد والفساد الشمولية المدنية أو العسكرية، وديكتاتورية حركات الإسلام السياسي الدموي الداعشية وشركاءها التي تمد جذورها عميقاً في مناهج التربية والتعليم والكتب المدرسية في البلدان العربية والمسلمة، وغياب الديمقراطية والدولة المدنية والعدالة الاجتماعية والمساواة في المواطنة.
في ظل توحش العولمة الأحادية، وتوغلها على منطقتنا العربية، علينا أن نسعى إلى بلورة مشروع الكتلة التاريخية الوطنية الديمقراطية في هذه المرحلة في كل بلد عربي، والحوار والتعاون بينها لتجاوز تناقضات وصراعات واقعنا العربي المأزوم المنتفض، ثورات وتحولات لم تكتمل في هذه المرحلة المصيرية.
إن هذا التنسيق في المهمات يبلور تبادل النظم والأفكار والقواعد المعرفية في الاجتماع والتاريخ والفلسفة كما السياسة من حيث الاستخلاصات، أي بلورة التوجهات نحو مهمات متناسقة راهنة، والإفادة من كل ما توصلت له ثورة المعلومات والإتصالات.
■■■
إن الجواب الصريح يكمن في التراكم المتسارع في عوامل التبعية والتخلف، ومناهج التربية والتعليم الأحادية السلطوية، الدينية والمدنية، هذا هو سبب فشل المجتمعات العربية، بعد أن تقطعت بها السبل مع المعرفة، وفي ظل غياب الثقافة النقدية كسلطة إجتماعية تفرض ذاتها، بالإصطدام بالواقع وتغييره نحو التنمية والتصنيع، الديمقراطية والتقدم الشامل، عبر المشاركة الشعبية المنتجة والمبدعة. دون ذلك لا إمكانية للإستنهاض، أي بدون النهوض المادي والصناعي، فالثقافة هي ثمرة هذا النشاط الإجتماعي المادي والمعرفي والروحي. وهذه هي مهمة التيار الديمقراطي واليساري والليبرالي التعددي، أينما حلّ في ربوع وطننا العربي. رفض تبرير الوضع والواقع القائم، وإضفاء الشرعية الفكرية - السياسية عليه. بل استدعاء العقل النقدي وممارسة النقد الجذري، وفق قواعد منهجية تحديثية تنويرية إجتماعية، لتغيير العلاقات السائدة، ولنتمكن من توفير المقدمات المطلوبة في مواجهة نظام العولمة الراهن، بحضارته الإكراهية عبر طابعها الأحادي، والتي تنزف جراحاً ودماء، إنتفاضات وثورات، إستبداداً وفساداً في فلسطين، لبنان، العراق، سوريا، تونس، مصر، اليمن، ليبيا، السودان، الجزائر، وبلدان عربية أخرى الآن في يومنا، عدواناً ومهانة واستغلالاً واحتلالاً، صراع دكتاتوريات إستبدادية شمولية مدنية، عسكرية، دينية طائفية ومذهبية، داعشية وشركاءها في حق الشعوب العربية.
إن أخطر ما يواجهنا الآن هو دعوات التبرير وإدارة الظهر على مستوى النُظم السلطوية في البلدان العربية، دعوات «التبرير» بما تعني الإستسلام. وبإعتبار حاملها التنظيري بأن المرحلة تعيش «قدراً تاريخياً» لا فكاك منه قرناً بعد قرن، دون تحفظ أو مراعاة للحدود الدنيا للحقوق، دون مراعاة الخصوصية والهوية والمصالح الوطنية والقومية، دون مراعاة حقوق شعوب عربية تحت العدوان والإحتلال. خاصةً وأن الدور المركزي في منطقتنا هو لـ «إسرائيل» الكولونيالية الإستعمارية، كبؤرة إمبريالية صغرى، وفي كل ما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية الأساسية السياسية الإقتصادية والعسكرية في المنطقة العربية.
■■■ في ذكرى جمال عبد الناصر، وبعد خمسين عاماً؛ الخلاصة تقول
أولاً: بأن ثقافة التحرر والديمقراطية والدولة المدنية والعدالة الإجتماعية، وثقافة المقاومة التحررية الوطنية العربية في نطاق أقطارها وعبر أشكالها المختلفة، ستكون قاصرة وبلا جدوى وبلا معنى أو تأثير عميق؛ ما لم تتمكن القوى الديمقراطية العربية، التحررية الحداثية واليسارية والليبرالية التعددية من إنجاز التنسيق المطلوب فيما بينها في اعتماد متبادل.
ثانياً: تحويل الصراع مع العدو الصهيوني إلى نهج سياسي - مجتمعي، جامع لكل مقومات وإمكانات وطموحات الجماهير الشعبية الفلسطينية والعربية في عملية المواجهة. إن مهمتنا جميعاً تقوم الآن على بناء عقل حديث جماعي لحركة التحرر الوطني والقومي العربية، بآفاقها الديمقراطية والتقدمية الإجتماعية، في مواجهة أزمة التبعية والاحتواء والإستبداد لمجتمعاتنا العربية. أي وضع هذه الحركة على مسار خارطة طريق فعلية، على سكة التطور الاجتماعي العربي في سياقه التاريخي العام، في مواجهة الأنماط الإجتماعية الموروثة القديمة التي «تجتر النقل لا العقل»، نحو البديل الديمقراطي الحداثي، لا بل جديد التاريخ المعاصر، في إطار النضال الوطني القومي التحرري والديمقراطي معاً.
على هذا المسار يمكننا أن نبلور مشروعاً نهضوياً قطرياً وعربياً ملموساً في الحاضر ونحو المستقبل، قادراً على التغيير والنهوض وفق مصالح وتطلعات وطموحات الأغلبية الساحقة في مسار الشعوب العربية. بداية الخروج من المشهد الملتبس. الخروج من القرون والعقود العجاف الماضية. هذا التغيير لن يأتينا من الخارج ولن يتم إلا ذاتياً. دون هذا نراوح خارج عربة التاريخ المعاصر، ضاعت على العرب القرون منذ مطلع القرن التاسع (هزيمة العقل لصالح إستبداد النقل)، ضاع القرن العشرون الأكثر ابداعاً وثورات علمية ومعرفية كبرى. وإستثناء في تاريخ البشرية، تواصل التخلف العربي، حلّت نكبة فلسطين 48، هزيمة حزيران (يونيو) 67، الحروب الداخلية والأهلية، الدينية الطائفية والمذهبية، تداعيات مدمّرة، «انتفاضات وثورات عربية لم تكتمل..».
■■■
فلسطينياً ناضلنا طويلاً من أجل إنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، ومن أجل تفعيل وتطوير ودمقرطة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، عملاً بقرارات إعلان القاهرة (17 آذار/ مارس 2005)، وبنود وثيقة الوفاق الوطني للوحدة الوطنية، والتي وقعت عليها جميع الفصائل في غزة (27 حزيران/ يونيو 2006)، وصولاً إلى الاتفاق على أسس «انتخاب مجلس وطني جديد وفق التمثيل النسبي الكامل» داخل وخارج الأرض المحتلة، قرارات المجلس المركزي 2015، قرارات اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني في 10-11 يناير/ كانون الثاني 2017، قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير (يناير 2018)، قرارات المجلس الوطني الفلسطيني (30 ابريل/ نيسان – 3 مايو/ أيار 2018): تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الشاملة الائتلافية لإنهاء الانقسام، تجهيز الآليات لانتخاب مجلس وطني جديد في الوطن والشتات بالتوازي مع انهاء الانقسام.
ناضلنا من أجل إنجازها طوال حقبة احتكار حركة «فتح» للسلطة ولمؤسساتها وخاصة منذ اتفاق أوسلو 1993 وتداعياته المرّة حتى يومنا 2019، ومن ذات القاعدة نناضل ضد حكومة اللون الواحد لحركة «حماس» في غزة منذ 14 يوليو (حزيران) 2007. لقد قررت «وثيقة الوفاق الوطني» تشكيل «حكومة وحدة ائتلافية» بعيداً عن الإحتكار الفئوي، وعلى أساس «الشراكة السياسية بالقرار وليس على أساس المحاصصة»، وأن تلتزم هذه الحكومة ببرنامج سياسي جديد وموحّد، مشتق من بنود وثيقة الوفاق الوطني.
إن برنامج الإجماع الوطني، يدفع نحو الإسراع في المباحثات لتشكيل الحكومة الشاملة الإئتلافية وانتخابات رئاسية وبرلمانية (مجلس وطني جديد) في الوطن والشتات، وصياغة برنامج سياسي جديد وموحّد، نحو حل القضايا الخلافية السياسية العالقة وصولاً إلى إعلان البرنامج السياسي الجديد، البرنامج الواقعي الملموس، والذي يستند إلى وثيقة الوفاق الوطني، قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير 2015، اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني يناير 2017، المجلس المركزي لمنظمة التحرير يناير 2018، قرارات المجلس الوطني لمنظمة التحرير 3 أيار/ مايو 2018 وقرارات القمم العربية، والشرعية الدولية.
إن تحقيق وتطبيق هذه البرامج وقرارات الإجماع الوطني تشكل مدخلاً للخروج من أزمة النظام السياسي السلطوي للسلطة الفلسطينية، سلطة الاحتكار الفئوي الإنقسامي والاقصاء، بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية، الأزمة المتشعبة الأوجه، المتعددة المظاهر، على مخاطرها السياسية، فقد أخذت تمتد في المشهد الفلسطيني الراهن نحو أزمة مجتمعية، فكرية، اقتصادية، وسياسية، بل أخذت تطال بآثارها الهوية الفلسطينية ذاتها، بفعل تصاعد الدور الخارجي الأمريكي – الإسرائيلي وخطته، وخطوات ترامب - نتنياهو بالذات على مستوى قضيتنا الوطنية وحقوقنا المشروعة بصورة خاصة.
اذن أزمة شعب بأكمله، أزمة الأغلبية الساحقة التي تتطلع إلى بناء الوحدة الوطنية الديمقراطية، المجتمعية والسياسية والاقتصادية على الأرض المحتلة كلها في الوطن والشتات. التي تتطلع بشغف ومصداقية، مقرونة بآمال واستعداد عالٍ للتضحية، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، في التحرر الوطني، والاستقلال السياسي، والعودة، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والمساواة بين المرأة والرجل وسيادة القانون.
إن هذا الطريق يبدأ ببرنامج الخلاص الوطني، بمواجهة المسار السلبي، والممارسات السلبية المختلفة منذ اتفاق أوسلو 1993، وتراكماتها من فشل إلى فشل، 26 عاماً من المفاوضات الثنائية العقيمة، التي هيمنت كلياً على صورة الواقع الفلسطيني. ومنذ عقدٍ ونيف بانقسام مدمّر أعجف وحتى اللحظة الراهنة.
إنه النضال والمقاومة المسؤولة، وصولاً لبناء الوجه الإيجابي بأدواته الوحدوية وبرنامجه في الفكر والثقافة، والسياسة والاقتصاد. طريق الخلاص الوطني ... طريق الوحدة الوطنية الديمقراطية... طريق وثيقة الوفاق الوطني، والحكومة الائتلافية/ التي تضم ممثلي الفصائل الفلسطينية والشخصيات الوطنية.
في ذكرى الرحيل.. تجربة عبد الناصر، إنجازات وتحولات كبرى، أخطاء وتداعيات سياسية وعسكرية وفكرية كبرى.
تحية للشهداء ... للأسرى المناضلين ...
تحية لمقاومة شعبنا الفلسطيني المقدام، للثورات العربية التي لم تكتمل ...
وفجر الإستقلال والدولة والعودة لا بدَّ آتٍ، وآخر كل ليلٍ نهار ...