الطَّريقُ إلى الموتِ تَعجُّ بالأحياءِ الخَطرين
2019-07-28
الاتجاه الديمقراطي (وكالات)
يلجأ الشاعر أحمد م. أحمد إلى الترميز في مصطلحاته وصوره الشعرية، ذاهباً في الاستعارات حتى تبلغ منتهاها.
لا يملكُ الكثيرَ منَ الوجوه، سوى وجههِ الملول، وجههِ الذي لم يرَ الكثيرَ من الزَرقةِ، وصورةٍ وحيدةٍ لإلههِ الأوحد؛ ضميرهِ الحيّ، ونبيهِ العقل وكتابهِ لمن يصفها بِـ"أنتِ".
بهذي الصورة الشعرية الزاخرةِ بالتمرد من مجموعة الشاعر السوريّ أحمد م. أحمد، الصادرة عن دار آس (2018) تحت عنوان "الطريقُ إلى الموت تعجّ بالأحياء الخطرين"، يخرجُ الشاعرُ من بين سطور نصوصهِ كمثلِ قنّاصٍ يقنصُ عثرات اللغة وفخاخها، يهتكُ الصور الجامدة الميتة فيها، ويبثّ في موتها الآفل حركة المجاز الخاصة به، فيعرّي عن الشعر كل الاستعارات التي تعلقتْ على المشاجب العتيقة، من دون أن يقفَ على الحياد، بل يجاهد في تخليصها من اللغو والتحجر، لينعشَ الحال الثقافية من ركوها وسباتها السريريّ.
عن الأحياء الذاهبين خطأً في برادات الموتى، ومن بيتٍ تصبئ خارجه الحرب، وكأس فودكا مزجها بدبس رمان قلمه وصدعٍ يكاد يشبه خارطة الوطن، يُخرِجُ نصهُ، ويبنيهِ مجفِفَاً نهر المفردات الضيق المليء بالمجاز. من منزلٍ بأربعة أركانٍ، ونصالٍ تمدّ رؤوسها من الجحور يُشكل حوافّ المتون معترفاً بلا نهائيتهِ، ولا ثباته، ولا ألوهيتهِ. غير راضٍ على اعتماده الساكن والأجوف والجامد، ليأتي الشاعر، بلغته الحادةِ مثل نصل، الصريحة مثلَ عاصفةٍ شتائيةٍ، ويبعث الحياة في الشعر مجدداً من لجةِ اللغة الميتة إلى رحم الذائقة.
يهدي الشاعر مجموعتهُ لأختيهِ اللغويتين (لا) وَ(ليس) اللتين قد تبدوان جامدتين إلا أنهُ يبث فيهما الروح بعد أن أمسكتا بيده وقادتاه إلى درب الاحتراق على الورق، هو كما يصف ذاتهُ الشعريةَ، الأعمى!.
وكمن يظهر غير كارهٍ للسكوت الأزعر، محاذراً ألا يرى حتى نفسهُ، مفصلاً حزنه الأسود لفصائل جديدة، وطفراتٍ لم يعهدها القراء قبلاً، يتعدّى حالة السخط المطمور داخله، ويعمدُ إلى تعريةِ كلّ ما يراه ميتاً وفاقداً للصلاحية، فيصبُّ سخطهُ على المعاجم الرثة، والنصوص المكرورة، كما في الصفحة (18) حيث كتب:
النصُّ عن زرّ الورد
وعروةِ القميص
لا يقيتُ صراصير ليلي،
ولا تسيلُ له المغسلةُ إلاّ بالصدأ
ونصُّ الندى والغروب السيلوفاني
جرثومةُ ضوءٍ مريض.
وكما لو أنَّ كافكا يجلسُ على شاطئ أنترادوس (طرطوس)، بعيداً عن العالم وعن نفسهِ، يدلقُ الشعر خارجاً من مظلةِ جمالية القبح، ناثراً غضبهُ على جدرانِ بيوتٍ بلا ألوان، وشبقاً من تآلف اللغة مع سباتها الازليّ، متشرِّباً ندمهُ، على شاعرٍ لم يعد كما كان، شاعرٍ كنصفِ قتيلٍ، نسي أن يُناجي حبيبة الليلة الفائتة!.
يلجأ أحمد م. أحمد إلى الترميز في مصطلحاته وصوره الشعرية، ذاهباً في الاستعارات حتى تبلغ منتهاها، هارباً من عبثية حياةٍ تجوسُ مخالبها في شرايين دماغهِ؛ كما كتب:
لن يبيعَ ابني الأرض التي تريد
أحببتَهَا؟ تطلُّ على بحرٍ وجبلٍ!
سيتركُ لي قبراً صغيراً فيها،
للحطبين اللذين تراهما الآن – أنا
وما فوق ظهري – ال أورثاه وجنتهُ الوردية
اللذين امتزج عرَقاهما على هذه الحجر
مع دمع أمكَ، أيّها الرّمد!
ومن دون أن تخلو هذي المسحة العنيفة من السخط، والتمرد، الممزوجة بكثيرٍ من الموت المطبق على أعناق الأحياء والكلمات، والممرّدة أكثرَ بصرخة الشاعر الدّاعي إلى التخلي عن الجلود القديمة، تظهر مسحة النوستالجيا والحنين المختبئ ما بين ضلوعِ شاعرٍ أتى من حقلٍ بعيد أخضرَ، كما في قوله:
نوستالجيا،
أغنيةٌ حزينةُ
آتية من حقلٍ أخضرَ بعيدٍ
يموتُ فيه أبٌ أو حبيبٌ بلدغة أفعى
نوستالجيا تعرَّت من الساتان
يسمعها أولكَ الذين حملوا قبعاتهم بأيديهم
وأخفضوا رؤوسهم، حداداً عليكِ –
شهيدةَ القشّ الصماء!
المجموعة فيض من القصائد النثرية، تحكي عالمٍ لم يعد يحتملُ اللغو الميت، تطالبُ الكلمة أن تكون حقنةً سريعة أو طلقة رحمة، وتنقدُ ركود الحال الثقافية، الميتة، المتآكلة، والتي تحتاج لردم صورها التي عفا عليها الزمن وتقادم وإلا كما قال الشاعر، علينا أن نطهو ألسنتنا في قدر المومس الخرساء!
عن الشاعر:
أحمد م. أحمد، كاتب ومترجم وناشر سوري، درس في جامعة دمشق –ترجم رواية "رجل في الظلام" لبول أوستر – دار الآداب، ورواية (1234) لبول أوستر عن منشورات المتوسط، وروايات أخرى. ترجم مجموعة قصصية بعنوان "جمجمة الوقت . مختارات من قصص الهند". له ديوان بعنوان "أحرق سفنهُ إلا نعشاً"، والعديد من المقالات والقصص والدراسات في الصحف العربية.
*غنوة فضة روائية سورية