غبار 1918: تراجيديا الموت خلال الحكم العثماني
2019-06-15
الرواية تأريخ لمرحلة سوداء من تاريخ الشرق الحافل بالمآسي والحروب والقتل والموت والتيه والدمار.
أمي اسمها "أربي"، كانت عيناها زرقاوين.. الأتراك أحرقوا بيتنا..إسمي آرام..سرنا أيامًا في الصحراء.. اختبأنا ستة أيام في الكنيسة.. في عيد الميلاد كنّا نبني بيتًا صغيرًا ليسوع.. سرنا طويلًا في الصحراء من دون ماء ولا طعام.. كانت مياه الفرات مليئة بالجثث.. الأتراك أخذوا عقد أمي الذهبي..أمي ماتت من المرض والتعب في الصحراء..الجنود باعوا "نوبار" ابن عمي إلى راعٍ كردي..(ص52).
بمحتوى قصاصات أوراقٍ صغيرة خبأها الطفل "آرام" في شجرة قريبة خوفًا من ضياع تاريخ عائلته، عدما غيّر له الأتراك اسمه، تستهل الكاتبة فاتن المر روايتها الجديدة "غبار 1918" رحلة التيه والألم التي عاشها الناس في لبنان وسوريا في الحرب العالمية الأولى. فتعود بنا إلى زمن مفصلي في تاريخ أمتنا والمنطقة، تنثر حبرَها في مساحة بين زمنين واحتلالين، وحرب عالمية قاسية، طحنت عظام الناس، وحصدت ملايين البشر في سنوات قليلة، تحقيقًا لرغبة "الرجل الأبيض" وأطماعه وجشعه في أربع رياح الأرض. إلى أن وصلت الحرب إلى منطقتنا التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية، والتي استمر احتلالها زهاء أربعة قرون، زرعوا في المنطقة كل صنوف التخلف والأحقاد، حتى إذا ما أطلت الحرب الكبرى برأسها، وضعوا الناس والطيبين في مقدمة الجيش المدافع عن "الدولة العليّة". وعندما ضربت المجاعة بلادنا، كانوا والجرادَ سواء، أفقروا الناس وجوعوها، وسلبوهم قوتَ يومهم، وأشجارَهم، حتى كان الموت ثالثَهم.
ركّزت صاحبة "حدثيني عن الخيام، والخطايا الشائعة" على مأساة جزء من اللبنانيين، الذين عاشوا يوميات تلك الحرب الفظيعة، ولا سيما من كانوا ينتمون إلى الطوائف الأرمنية الأشورية والكلدانية. فاستحضرت حكايات المعذبين والمقهورين، والعائلات التي تشتتت ونُثرتْ كغبار لا قيمة له في لحظة تاريخية عنيفة ومقيتة. مع أنّ الظلم لحق بكل اللبنانيين والسوريين وغيرهم. وما عاناه الجميع لم يقلّ سوءًا وبشاعة عن الآخرين، ولكنّ الكاتبة أرادت الكلام على مجموعة معينة، وربما لو أنها وسّعت مروحة تغطيتها للمأساة كان أفضل وأكثر موضوعية.
لقد شكّلت الحكاية أحد فصول صراع الهويات، التي مارسها العثمانيون على أبناء المنطقة وأهلها، إضافة إلى بذل كثير من الجهد لمسح تاريخ الشعوب وذكرياتها وثقافتها، إضافة إلى الأمكنة. فيشعر المتلقّي، وهو يقرأ الرواية بثقل ما تعرّضت له فئاتٌ كثيرة، على مر الزمن، منذ المغول مرورًا بالمماليك، وما ارتكبوه بحق شريحة كبيرة من اللبنانيين، مرورًا بالعثمانيين، وما ارتكبوه من مجازر وتهجير بحق الكثير من الشعوب، وصولًا إلى البريطانيين والفرنسيين، ومؤامراتهم على أهل منطقتنا خاصة، ومنحهم فلسطين هدية للصهاينة الذين كانوا- وما زالوا- العصا الغليظة في مشروعهم. وما نتج عن هذا الفعل الخطير من تشريد شعبٍ من أرضه، وما زال مشتتًا إلى اليوم في أصقاع الدنيا. وصولًا إلى زمننا هذا، وما اقترفته التنظيمات الإرهابية من تهجير وطمس هويات لغير مجموعة بشرية في العراق وسوريا.
يتقاسم الحكي في الرواية راويان. يروي "يوحنا" الذي عانى ويلات الحرب العالمية الأولى، الفصول المعنونة بـ"قادم من زمن المجاعة" ويتكفّل "جون" الذي ذكرت الروائية اسمه مرة واحدة في الحكي، الفصول التي حملت عنوان "ديرويت 1972".
يبدأ القص من "ديترويت 1972" حيث يحكي "جون بيترسن" المتزوج من بروك، من والدة أميركية ووالد لبناني، حكاية خلافه مع الهارب من الشرق. فيتلوّن الزمن بألوان الحرب الكبرى، فنعيش في زمن الجراد والمجاعة، وزمن العثمانيين والخوف والقهر الذي مارسوه على مواطني مستعمراتهم، وزمن الشتات الذي فرّق العائلات والأسر والبيوت، وأحالها إلى أرقام وأكوام من لحمٍ، وأفواه جائعة فاغرة في زمن جمال باشا السفاح الذي أفنى وأعدم وقتل وشرّد.
يتماشى زمن "غبار 1918" مع أحداث تكررت في وقتنا الحاضر، فتذكّرنا مقاربة فاتن المر من خلال "تيه" الأُسَر وشتاتها في الحرب العالمية الأولى، بما حصل في السنوات الأخيرة، عندما سيطر تنظيما داعش وجبهة النصرة على مساحات هائلة في كل من العراق وسوريا، وكذلك في مناطق في كل من ليبيا ومصر وغيرها من الدول، تحت أنظار "المجتمع الدولي" ودول "العالم الحر"، وما حصل من تشتيت للعائلات في أربع رياح الأرض. ولكنّ اللافت في الأمر أنّ هذه المأساة مرت من دون كبير ضجيج إعلامي وإنساني، بحيث بدت وكأنها "حادثة عائلية عابرة"، والعالم ما زال إلى اليوم يدفع فاتورة قهر واضطهاد مجموعات دينية وعرقية منذ الحرب العالمية الأولى.
تمثّل المكان في مكانين، لبنان وسوريا، أو ما يسمى بلاد الشام، أو سوريا الكبرى، كما أرادت الكاتبة غير مرة التذكير في هذه التسمية، في تظهير للإيديولوجيا التي تحملها، ومن خلال الشعارات التي أطلقها المتظاهرون المطالبون بالاستقلال عن الاستعمار "جمهوريتنا سوريّة مستقلة، متعاونة مع جميع الدول العربية." ص 161
والمكان الآخر كان الولايات المتحدة الأميركية، كمكان للهجرة والمنفى والشتات، المكان الذي هاجر إليه كثيرٌ من اللبنانيين والسوريين في أثناء الحرب الأولى، وفيه كان موت شخصيتين رئيستين في الحكاية أنيس وإيليا.
وتوزعت الشخصيات على عدد وافر من الناس الذين عانوا ويلات الحرب، وكانوا مؤثرين في أحداث الحكاية، يوحنا، الصبي، الشخصية الرئيسة الذي فقد أمه وشقيقه وشقيقته بسبب المجاعة، الطفل الذي كان نصيبه البقاء من أسرة ماتت كلّها في زمن الجوع، ووالد لم يستطع تأمين لقمة العيش إلى زوجته وأبنائه، فقرر الهروب من الواقع، بعدما رهن منزله، فتموت الأسرة بأكملها إلا يوحنا. إضافة إلى اختفاء "العم أنيس" الذي انقطعت أخباره بعدما قبض عليه الجنود العثمانيون واقتادوه إلى سجن عاليه. انتشل الأب مخايل كاهن القرية يوحنا الصغير من الموت، وأخذه إلى ميتم عينطورة حيث تعرف هناك إلى أمير (اسمه الحقيقي آرام) الذي سيصبح صديقه المقرب، يحرره خاله "جريس" ويصطحبه إلى دمشق حيث يضعه في عهدة الكاتبة ماري العجمي التي كنت خطيبة بترو باولي الذي أعدم من قبل الأتراك. وماري العجمي وشقيقتها إيلين وحسن الخراط، أحد قادة الثورة السورية الكبرى.
وفي بيروت يحضر السيد بوغوس خال آرام، وسوزي شقيقته (غير الحقيقية إذ إن آرام انتحل شخصية "نظام" لتكون له عائلة) وهي التي سيغرم بها يوحنا ثم يتركها حين يعرف أن آرام يحبها أيضًا، رافضًا بناء سعادةٍ زوجية على أنقاض صداقةٍ وأخوةٍ وتضحيةٍ، ورحلةِ عذاب غير متصورة، مع رفيق دربه وآلامه "آرام". لم تترك الحياة والرفيقان خيارًا أمام سوسن سوى الانتحار والموت. وبعدما تلمّس الثلاثة شيئًا من معالم الفرح والسعادة، تعود الحياة لتكشف لهم وجهها البشع، وتنقلب عليهم معًا، فتتجدد رحلة التيه إلى الغربة والضياع والموت.
تختار الكاتبة نهاية مأساوية فجائعية، تعود بنا إلى العصر الرومانسي، ولكن بخلفية سياسية تاريخية، فتصرّ على أن تكون ثيمة الحكاية هي المأساة والموت والخوف والإحباط. فبدا العالَم النفسي كئيبًا ممثلًا بالواقعين الاجتماعي والسياسي اللذين حضرا من خلال ظلم العثمانيين وقهرهم، ووصل إلى المؤامرة والدسائس التي حاكها المستعمر الأوروبي الوارث للإمبراطورية العثمانية، والتي كانت أسوأ من الناحية السياسية وتأثيرها في مستقبل المنطقة التي عملوا على تمزيقها كياناتٍ إثنية وعرقية وطائفية، وعملوا على تضييع حقوق شعوبها في حكم نفسها وبلادها، فكانوا كالعثمانيين، بل أشدّ وطأةً وظلمًا.
هيمن في الحكاية المونولوج الذي ارتبط بلحظات حاسمة، مأزومة في كثير من محطات الرواية، ربما لشعور الكاتبة أنّ الوحدة والفرقة هي التي حكمت علاقات الشخصيات، أو لأنّ الخوف لم يسمح للشخصيات أن تتحاور مع غيرها إلا قليلًا، فتحوّلت المناجاة إلى مناجاة داخلية "بدأ الجوع يتحول مرضًا يشل قوانا... كنّا نعيش بمشاعر وأفكار لا تكاد تتجاوز الغريزة الحيوانية. كنّا هياكل بشرية تنتظر الموت، وتحاول أن تحتال عليه قليلًا."(ص 25-26). فمن خلال المونولوج الداخلي يتلمس القارئ ملامح التباعد والفرقة بين الذات المقهورة والعالم الخارجي الأكثر مأساوية وظلمًا وقهرًا.
لقد عانت الشخصيات من أزمات نفسية عميقة بسبب الأحداث الجسيمة، والتحولات الصعبة التي فُرِضَتْ عليها، فعاشت ضياعًا وغربة، بل عاشت المأساة بكل معانيها.
الرواية تأريخ لمرحلة سوداء من تاريخ الشرق الحافل بالمآسي والحروب والقتل والموت والتيه والدمار، فحملت الكاتبة القارئ إلى صحراء التيه التي حسبنا أننا خرجنا منها يومًا، ولكنّ الذي تبيّن أنّنا لا نزال بين كثبانها تائهين، لا نتلمّس طريق الخروج بعد. لتتناثر أوطاننا بين أقدام المستعمرين والمحتلين من عثمانيين وبريطانيين وفرنسيين، فاستحلنا غبارًا غير مرئي، تتحكّم بنا وبمستقبلنا نتائج حروب فرضت علينا، ولم يكن لنا ناقة فيها ولا جمل.
رواية جميلة ومكثّفة، تحتاج لقراءات معمّقة، وقد تكون محطة لدراسات أكاديمية، لما تحمله من موضوعات وأفكار وأحداث تطل على التاريخ عبر حقبة حساسة ومفصلية، محاولة تسليط الضوء على فئة من الناس عانت الاضطهاد والموت، في مقاربة لكوارث الحروب. ولكن استباقًا لما قد يقوله بعض المغالين، أو الطائفيين، أو المزايدين؛ فإنّ فاتن المر انتقدت السلطنة العثمانية، وما اقترفته من آثام في الحرب الأولى، ولكنها في الوقت نفسه لم تبشّر بحكم الاستعمار الفرنسي أو البريطاني الذي أتى على أنقاض السلطنة العثمانية، والذي تغنّى به بعض اللبنانيين، ولا يزالون. فكان واضحًا من خلال السرد، أنّ الاستعمار الأوروبي كان بدرجة السوء نفسها التي كان عليها العثمانيون، إن لم يكن أسوأ، لأنّ شعوب "المنطقة الموروثة" ما زالوا يعيشون نكبات وويلات ومصائب ما اقترفته أيادي مارك سايكس وجورج بيكو، وآرثر جيمس بلفور.
طارق عبود أكاديمي وباحث لبناني.