(1)
■ من يراقب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو يصدر قراراته بشأن المنطقة العربية، وتقطيع أوصالها، وضمها لإسرائيل، يتخيله وهو في البيت الأبيض، يملك خارطة للمنطقة مختلفة عما هي عليه الآن. وقد وضع جدولاً لخطواته وإجراءاته، من أجل التقدم، خطوة خطوة، نحو تحويل الواقع العملي للمنطقة إلى صورة طبق الأصل للخارطة التي يملك ويعمل على نقل وقائعها دفعة دفعة. وهو ما أطلق عليه «صفقة العصر»، أو «صفقة القرن»، بينما نفضل أن نطلق عليها «صفقة ترامب»، لأنها، في سياقها، وآلياتها، ومرجعياتها القانونية، والأخلاقية، لا تنتمي للقرن الواحد والعشرين، ولا تنتمي لعصرنا في علاقاته الدولية، بل تنتمي إلى عصر الإمبريالية وعصر الاستعمار، وعصر هيمنة الرجل الأبيض على العالم، وعصر شن الحروب ضد الشعوب ونهب ثرواتها، وعصر أنظمة التمييز العنصري، وعصر رسم الخرائط بالقوة، كما فعل الاستعماران البريطاني والفرنسي، في فلسطين، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، وكما حاولت أن تفعل فرنسا في شمال افريقيا حين رفعت شعار «الجزائر هي فرنسا وراء البحار»، وكما حاول موسوليني أن يفعل في إثيوبيا، أو كما حاول ديغول أن يجعل من بنزرت شمال تونس قاعدة عسكرية بحرية لأسطوله، وأسطول الناتو في البحر المتوسط.
على هذه الخلفية يبني ترامب استراتيجيته، ليس في منطقتنا فقط، بل وكذلك في أنحاء العالم: ضد الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشمالية، وسوريا, ولبنان، وفنزويلا، وكوبا، وبوليفيا، وغيرها من دول العالم الصاعدة، وحيث شعوبها تتطلع نحو المزيد من الاستقلالية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والتحرر من قيود الرأسمالية الدولية.
(2)
لمنطقتنا، بالنسبة لترامب، ميزات خاصة، تعتبر من «الثوابت» في الاستراتيجية الأميركية.
• فهي منطقة استراتيجية من الناحية العسكرية، تربط بين ثلاث قارات كبرى، (آسيا – افريقيا – أوروبا). وفيها معابر مائية دولية، كقناة السويس، والبحر الأحمر، وباب المندب، ومضيق هرمز.
• وهي منطقة غنية بالاحتياط النفطي، الذي مازال حتى الآن، وسيبقى، العنصر الأكبر في الصناعات والحروب وأداة هيمنة اقتصادية على الدول، من خلال فرض أسعاره، صعوداً وهبوطاً: وما يتركه ذلك من تداعيات كبرى على اقتصادات الدول الصاعدة أو النامية، والفقيرة.
• وهي سوق استهلاكية كبرى للسلاح والصناعات الثقيلة، والاستهلاكية، الغربية واليابانية على اختلاف أنواعها، نسبة استهلاكها على الصعيد العالمي عالية جداً. تحرص الولايات المتحدة (ومعها أوروبا واليابان) على دوام السيطرة والهيمنة عليها.
• وهي، وأخيراً، وليس آخراً، المنطقة التي تقوم فيها دولة إسرائيل بما هي مشروع صهيوني، استعماري، إمبريالي، مرتبط على الدوام بمصالح الغرب في الهيمنة على المنطقة، وتشكل واحدة من أهم أدواته في الهيمنة العسكرية. وتاريخ الحروب العدوانية الإسرائيلية على دول المنطقة يؤكد ذلك دون أدنى شك. لذلك تعتبر الولايات المتحدة (والغرب عموماً) حماية إسرائيل، ودوام بقائها، وتوفير كل عناصر تفوقها على دول المنطقة (في الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها) ضرورة استراتيجية تندرج في إطار الأمن القومي الأميركي والغربي.
ولعل بدعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» تلخص السياسات الأميركية والغربية في دعم دولة الاحتلال، وإسنادها، (طبعاً مع تمايزات جزئية وغير استراتيجية بين الولايات المتحدة ودول أوروبية معينة)
وبالتالي فإن استدارة ترامب، في الأشهر الأولى لولايته، نحو المنطقة، وجولته فيها، بما في ذلك زيارته لدولة الاحتلال، ولمدينة بيت لحم، تندرج في إطار هذه الرؤية الاستراتيجية، التي أدخل عليها ترامب تعديلاً جوهرياً، في إدارة شؤون المنطقة ومعالجة قضايا الصراع فيها، أطلق عليها خطة «صفقة العصر».
ولكي يقدم ترامب خطته، في سياق سياسي يستقطب بعض الأنظمة العربية، في مقايضات سياسية (وهمية)، تصب بشكل كامل في خدمة دولة الاحتلال، عمد إلى إعادة صياغة المعادلات والمفاهيم والقيم السياسية والأخلاقية، وصولاً إلى محاولته المفضوحة لإعادة صياغة قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضايا المنطقة والناتجة عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية الأخرى، في لبنان، وسوريا، والأردن.
(3)
المعادلة التي أعاد ترامب صياغتها، وشاركته فيها بعض الأنظمة العربية، هي القول بأن إسرائيل ليست هي الخطر على الدول العربية وعلى المنطقة. وأن مصدر الخطر الوحيد هي إيران، وحلفاؤها في المنطقة كحزب الله. وأن مثل هذه المعادلة تستدعي إعادة صياغة التحالفات بين دول المنطقة وأنظمتها لإقامة حلف إقليمي، تكون إسرائيل في عداده، لمواجهة الخطر الوحيد: الإرهاب ومصدره إيران وحزب الله. فتنكر للاتفاقية النووية بين المجتمع الدولي وإيران، ووضع طهران في خانة الأعداء، كما وضع حزب الله. ودعا إلى الانفتاح العربي على إسرائيل، وإسقاط قرارات مقاطعتها، والعمل على تطبيع العلاقة معها ودمجها في دول المنطقة. كما دعا بعض الانظمة العربية للانتقال من موقع المؤيد للجانب الفلسطيني، إلى موقع «الوسيط» بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني. في خطوة هدفها فك الحصار عن إسرائيل وفرضه على إيران، وحزب الله، وكذلك على الفلسطينيين أنفسهم وبذريعة خطر الإرهاب والعدوان الإيراني، وللدفاع عن مصالحه في الثروة النفطية في دول الخليج، وليحول دول الخليج مستودعات أسلحة لجيوشه في المنطقة، ولإنعاش اقتصاد الولايات المتحدة، في الوقت نفسه، فرض على الأنظمة الخليجية صفقة أسلحة أميركية، بمئات مليارات الدولارات، سيكون مصيرها التكديس في المستودعات. وأعلن قيام الحلف الإقليمي، المرتبط بالولايات المتحدة، الذي من تداعياته، ارتباط أنظمة عربية معينة، وتوثيق تبعيتها السياسية والاقتصادية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية. حتى أن العقل الإمبريالي الاستعماري، ابتدع لبعض هذه الأنظمة «مشاريع تنموية» (وهمية إلى حد كبير) من شأنها أن تصب بمئات مليارات الدولارات في الخزينة الأميركية وفي خزينة شركاتها المختلفة.
وبذريعة أن القضية الفلسطينية باتت تشكل عقبة في طريق قيام الحلف الإقليمي، العربي – الإسرائيلي – الأميركي، بات لابد من حل هذه القضية وإزالتها من الطريق. ومع أن كثيرين رحبوا برغبة ترامب في «حل القضية الفلسطينية» بمن في ذلك أطراف فلسطينية رسمية، إلا أن هذ الترحيب تعامى عن المشروع الاستراتيجي لترامب في المنطقة، وتعامى عن الاستراتيجية الأميركية الخاصة بعلاقتها مع دولة الاحتلال. وتعامى كذلك عن عناصر القوة الكامنة في الحالة الفلسطينية، وصب كل رهاناته في الحقيبة الأميركية، التي كشفت لاحقاً عن «الصفقة» ليظهر أنها «صفعة»، بل أكثر من «صفعة»، بل هي مشروع متكامل لتصفية القضية الفلسطينية، باعتبار أن ذلك هو «الحل الوحيد» الذي يخدم مصالح إسرائيل ومشروعها الإستعماري، الذي كشف عنه نتنياهو بعد خطوات «صفقة ترامب» في مشروع إسرائيل الكبرى.
(4)
من أجل «فكفكة» العقدة الفلسطينية، وبناء «إسرائيل الكبرى» وفتح الباب أمام دمج إسرائيل في المنطقة، وتكريس استراتيجية «مقاومة الإرهاب الإيراني»، عمد ترامب إلى مجموعة من القيم والمعادلات التي من شأنها أن تشكل انقلاباً على الشرعية الدولية، وعلى مبادئ القانون الدولي، وعلى قرارات الأمم المتحدة استعاد فيها قيم الاستعمار الغربي في سنوات ازدهاره.
• المبدأ الأول هو تحويل «الوضع الحالي إلى واقع طبيعي» بذريعة أن عقارب التاريخ والزمن لا تعود إلى الوراء، وأن الزمن غير في معطيات الواقع بحيث بات مستحيلاً تغييره.
• المبدأ الثاني «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». علماً أن هذا «الحق» لا حدود له، فهو يدخل في باب الأمن، والاقتصاد، والسياسة، كما يدخل، وهذا هو الأهم في باب الجغرافيا.
وفي هذا السياق أسقط ترامب مبادئ «عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة»، كما أسقط «حق الشعوب في الدفاع عن سيادتها على أراضيها واسترداد كل شبر منها تحت الاحتلال»، كما أسقط «حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها على أرضها»، كما أسقط «حق الدول في الدفاع عن وحدة أراضيها».
بل عمد إلى أبعد من ذلك حين حاول أن يقلب قرارات الأمم المتحدة رأساً إلى عقب، محولاً «حق الشعوب في الدفاع عن نفسها»، إلى أعمال «إرهابية»، حين قدم مندوب الولايات المتحدة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع قرار، يدين مقاومة الشعب الفلسطيني باعتبارها إرهاباً. غير أن الأمم المتحدة أجهضت هذا المشروع.
وعلى المبادئ التي صاغها ترامب لنفسه نفذ الخطوات التالية في تطبيق «صفقة للقرن»:
1) اعترف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. لأن الانسحاب منها سيعني «إعادة تقسيمها» وهي «عودة إلى الخلف عكس عقارب الساعة».
2) أسقط حق اللاجئين بالعودة اعترافاً بالواقع القائم. والعودة تعني القضاء على «يهودية الدولة» وتجهض مشروع «إسرائيل الكبرى» .
3) اعترف بالجولان السوري المحتل «تحت السيادة الإسرائيلية» بذريعة أن الجولان حاجة إسرائيلية أمنية ماسة «للتصدي للإرهاب الإيراني» و«للدفاع عن النفس».
4) بعث وزير خارجيته جورج بومبيو إلى لبنان، للعبث بسيادته والتحريض على حزب الله، لأن وجوده «خطر على إسرائيل»، متجاهلاً أن إسرائيل هي من تحتل أرضاً لبنانية، وتهدد ثروة الغاز البحري في جنوب لبنان، وتنهب مياهه، وتنتهك سيادته بطائرات الاستطلاع.
5) وآخر صرعاته، تصريح سفيره في تل أبيب ديفيد فريدمان أن الإدارة الأميركية «تتفهم حاجة إسرائيل للسيطرة على الضفة الغربية»، في تمهيد فاقع لقرار أميركي مرتقب، يتعلق بضم إسرائيل للضفة (أو أجزاء منها) في إطار صفقة ترامب.
ومازالت التوقعات الأخرى قائمة في كل لحظة، إلى أن يتم الكشف عن تفاصيل «الصفقة»، التي نعتقد أن مضمونها سيكون واضحاً على الأطراف الفلسطينية المعنية: إما الانخراط في «الصفقة»، أو الخروج من المعادلة الإقليمية.
والكرة، حتى إشعار آخر، في ملعب القيادة الرسمية الفلسطينية.■