كان المستوطنون الإسرائيليون في مقدمة من احتفل بتقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة، وسبب الاحتفال أن التقرير لم يعد يرى أن هذه الأراضي واقعة تحت الاحتلال.
جاءت الخطوة الأميركية العدوانية هذه على دفعتين، شطبت في الأولى صفة المحتلة من عنوان تقرير الخارجية للعام الماضي، فيما نسفتها تماما هذا العام في متنه أيضا. وكل ذلك في سياق الخطوات المتدحرجة التي اعتمدتها إدارة ترامب في تطبيق صفقتها المشؤومة.
وإذا كانت هذه الخطوة تأتي في التوقيت خدمة لحظوظ نتنياهو بالفوز في انتخابات الكنيست الوشيكة، إلا أنها في الأساس حلقة تكميلية في تطبيقات المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، الذي يستند إلى اتحاد رؤيتي نتنياهو وترامب وفريقه تجاه مستقبل المنطقة العربية والشرق الأوسط، وفي الظل مستقبل الفلسطينيين الذين يعيشون في أرضهم «غير المحتلة»!
وعلى هذا الأساس، يعتبر المستوطنون وأحزابهم وفي المقدمة «الليكود»، أن الخطوة الأميركية هذه مجرد إعلان يحتاج تطبيقات مباشرة لتكريس السيادة الإسرائيلية الكاملة على كامل الضفة بما فيها القدس، بعد أن تم «تحريرها» في العام 1967، وأن العقبة الأساسية في وجه ذلك تكمن في فرض ترسيم وضع «السكان الفلسطينيين» في خريطة «إسرائيل الكبرى» التي تمتد شمالا بحسب المشروع الإسرائيلي ـ الأميركي لتشمل الجولان السوري المحتل، وهذه مسألة سيحاول نتنياهو الحصول على دعم عملي لبلورة آليات تطبيقها خلال زيارته إلى الولايات المتحدة وحضور مؤتمر «أيباك» ولقائه فريق ترامب. ويعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن المناخات السياسية القائمة تشجع على تسريع المحاولة لنقل خطوة إزالة صفة (المحتلة) عن الضفة والجولان والاكتفاء بتوصيف وقوعهما تحت السيطرة الإسرائيلية، إلى الاعتراف الأميركي الصريح بسيادة إسرائيل عليهما، وهذا يعني، في حال حصوله، اعترافا أميركيا رسميا بقرار الكنيست ضم الجولان في العام 1981.
هذا لا يعني أن ثمة ملفات مؤجلة على أجندة السياسة التوسعية الإسرائيلية بانتظار الموافقة الرسمية الأميركية، وخاصة فيما يتعلق برسم خريطة الكيانية الفلسطينية تحت سقف «إسرائيل الكبرى» بقلم الاستيطان وحملات التهويد المتصاعدة في القدس والخليل والأغوار وفق آلية التهجير والتطهير العرقي والاستيلاء على الأملاك الفلسطينية أراض وبيوتا.
فمنذ انفراط عقد آخر محطة تفاوضية بين الفريقين المفاوضين الإسرائيلي والفلسطيني في العام 2014،زاد عدد المستوطنين في الضفة عدا القدس الشرقية بنحو 77 ألفا، على طريق تحقيق وجود مليون مستوطن في الضفة كما أعلنت حكومة نتنياهو مرارا، واللافت أن الإعلام العبري من موقع التضليل نشر مؤخرا أن هذا الرقم قابل للتحقيق حتى العام 2040،فيما الحقيقة أن العمل يجري منذ سنوات من أجل تحقيقه خلال عشر سنوات وهو ما سبق وأعلنه نتنياهو بنفسه.
وفي العقد الأخير انتقل وجود المستوطنين وانتشارهم في الضفة، بما فيها القدس، من موقع التعبير الديمغرافي الملموس للسياسة التوسعية الإسرائيلية إلى موقع القوة المؤثرة في غرفة عمليات إدارة هذه السياسة. وهم اليوم في مقدمة المشهد السياسي والميداني في جبهة العدوان على الفلسطينيين ونهب أملاكهم. وهم أيضا حصان السبق الذي تراهن عليه الأحزاب الصهيونية اليمينية لكسب الانتخابات الوشيكة. وليس من قبيل الصدفة أن ينمو التيار الاستيطاني الكاهاني ويدخل رسميا في الانتخابات كقوة مرشحة للعب دور مؤثر في تشكيل التحالفات ما بعد الانتخابات وقد جهد نتنياهو من أجل كسب تأييدها ودعمها للعودة على رأس الحكومة مرة خامسة.
ربطا بما سبق، لا يستقيم الحديث عن المقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها المشروعة في مواجهة المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي دون أن يكون الاستيطان، بنية وأفرادا، على دريئة استهدافها. ودون يكون هذا الأمر حلقة مركزية في العمل الوطني الفلسطيني تحت راية البرنامج التحرري، وإلى جانب مختلف مناحي النضال الوطني السياسي والديبلوماسي والجماهيري، وفق برنامج موحد يأخذ بنظر الاعتبار تأمين عوامل صمود الشعب الفلسطيني وتمكينه على الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي.
وضمن هذه الرؤية ننظر إلى العمليات الفدائية التي استهدفت الاستيطان ومن بينها عملية سلفيت قبل أيام التي نفذها المقاوم الشاب عمر أبو ليلى، والتي أوقعت عددا كبيرا من جنود الاحتلال ومستوطنيه بين قتيل ومصاب. ومن الملاحظ تكرار هذه العمليات واتساعها، وإلى جانبها ومعها الهبات الشعبية المتواصلة منذ العام 2015 وجميعها في مواجهة السياسة التوسعية الاحتلالية عبر شقيها الأساسيين، نشر الاستيطان وحملات التهويد والتطهير العرقي، وفي المقدمة منها محاولات ترجمة الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة للاحتلال.
وجميع هذه العمليات والهبات تندرج في سياق المقدمات المرئية بالعيان للانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي تتميز عما سبقها بأنها موجات متتالية من الفعاليات النضالية المختلفة في زخمها والموحدة في أسبابها وأهدافها. ويتضح أن المحرك الأساسي لها والدافع لاستمرارها وتصاعدها هو تغول جميع تعبيرات الاحتلال في العدوان على حقوق الشعب الفلسطيني وأملاكه وحياته على إيقاع الخطوات العدوانية التي يدحرجها في وجهنا المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي.
ويتضح أيضا أن الاحتكاك في المكان الذي يحاول الاحتلال أن يكون سيفا على رقاب الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس ينقلب وبالا عليه وعلى مستوطنيه في معرض الرد الفلسطيني المقاوم على الوجود المتعاظم للمستوطنين وتضييقهم وعدوانهم على أصحاب الأرض، وبالتالي سينشغل الاحتلال في إجراءات حماية نفسه ومستوطنيه وصولا إلى إحصاء الخسائر التي تلحقها بهم مقاومة وجودهم وعدوانهم. وبالتالي تتغير المعادلة التي تنعم بفضلها الاحتلال على مدى أعوام طويلة ومختصرها «الاحتلال المجاني»، الذي يعود عليه بالمكاسب الصافية. في الوقت الذي يدفع فيه الشعب الفلسطيني الكثير تحت وطأة هذه المعادلة، بل وينتظره المزيد من الإجراءات العدوانية على طريق تصفية حقوقه وقضيته وإغلاق باب مستقبله الوطني وتهميش وجوده في ركن من أركان «الحل الإقليمي» الذي تقول به «صفقة العصر». .
وهذا يعني حكما أن الاستراتيجية الوطنية المطلوبة في مواجهة مشروع تصفية القضية والحقوق الفلسطينية لا تكتمل بالإجراءات السياسية والاقتصادية والأمنية للخروج من بقايا أوسلو فقط (على مركزية ذلك) بل ينبغي أن تكون الانتفاضة والمقاومة في مركز هذه الاستراتيجية، وهذا ما يعطيها صدقيتها كبديل جدي عن السياسات العبثية التي مورست على امتداد الأعوام الطويلة السابقة.