ليست هذه هي المرة الأولى التي تحوم فيها صقور الموت الامريكية حول فنزويلا، في محاولة للقضاء على المشروع البوليفاري الذي أعاد إحياؤه الراحل تشافيز في البلاد التي تتربع على عرش أكبر احتياطي للنفط في العالم بما يربو على 300 مليار برميل إضافة لاحتياطات كبيرة من الذهب (تشير دراسات حالية الى تصدر فنزويلا ايضا احتياطات العالم) والكوبالت والألمنيوم، ناهيك عن الموقع الاستراتيجي والعوامل التاريخية والإجتماعية التي تجعل فنزويلا بوابة ً أساسية لإعادة أميركا اللاتينية لعهد التبعية الأمريكي.
تتواتر الأخبار عبر كافة وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، إتهامات لنظام الرئيس نيكولاس مادورو بإغراق البلاد بالفساد وتحميله المسؤولية عن الأزمة الإقتصادية التي تمر بها كاراكاس، وعملية واضحة لغسل الأدمغة ومحي الذاكرة، ودون تقديم دلائل أو براهين أو حقائق تثبت هذه الاتهامات، وإغفال واضح لكافة الإنجازات التي تم تحقيقها اجتماعيا وسياسيا على الرغم من كافة الإجراءات التي قامت وتقوم بها الولايات المتحدة وأذرعها الإقليمية ضد فنزويلا.
الحقيقة التي لا تريد واشنطن لشعوب العالم معرفتها، هي أن نظام الرئيس مادورو استطاع بناء أكثر من 2.5 مليون منزل وتسليمها للفقراء من فنزويلا الذين تكدسوا في عهود النيوليبرالية كالحزام حول المدن دون تلقي الحد الأدنى من الخدمات الأساسية (تعليم، صحة، غذاء، ...) الحقيقة أن الدستور الفنزويلي الحالي هو إنجاز للثورة البوليفارية، تم إقراره عام 1999 ويعد من أكثر دساتير العالم ديمقراطية وينص على أن المسكن بحد ذاته هو حق للمواطن وعلى الدولة أن تعمل لتأمينه، هذا الدستور هو ذاته الذي رفضته المعارضة حينها، وتحاول اليوم استقطاعه وتسخيره لخدمة أهدافها في الإستيلاء على السلطة.
في ال 23 من يناير الماضي أعلن رئيس البرلمان الفنزويلي المعارض خوان غوايدو عن تنصيب نفسه رئيسا انتقاليا لفنزويلا، واتهم الرئيس مادورو بأنه مغتصب للسلطة ودعا لتشكيل حكومة انتقالية وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة تضمن عودة الديمقراطية للبلاد على حد تعبيره!!!
يتناسى غوايدو "عمدا" (وهو شخص مغمور دون أي تاريخ سياسي)، أن نيكولاس مادورو قد فاز بالإنتخابات الرئاسية التي تم تنظيمها في مايو الماضي وفاز فيها مادورو بنسبة تجاوزت 67% مقابل مرشّحَين من المعارضة التي انقسمت على نفسها وعجزت عن تقديم مرشح واحد، تلك الإنتخابات جرت مبكرة وبناء على طلب من نفس المعارضة الفنزويلية برموزها التقليدية بعد جلسات من الحوار في جمهورية الدومينيكان، لكن رفضت المعارضة في حينها التوقيع على الإتفاق الذي كان من شأنه وضعَ حدٍ للصراع الداخلي والعنف الذي مارسته المعارضة على مدار أشهر.
هذه المرة، وبخلاف المحاولات السابقة، تقود الولايات المتحدة علناً الانقلاب الجاري تنفيذه في فنزويلا، فالعقوبات الاقتصادية، والضغوط السياسية والحملة الإعلامية الغير مسبوقة، كلها موجهة لخلق ميزان قوى افتراضي، غير موجود على أرض الواقع، وبعيد عن مجريات الأحداث الحقيقية، اعتراف الولايات المتحدة بخوان غوايدو بعد خمس دقائق من تنصيب نفسه، متبوعاً باعتراف كل الدول الخاضعة للولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية والكاريبي، كما وجزء مهم من دول الاتحاد الأوروبي، يفضح التواطؤ والتعطش الأمريكي للاستيلاء على ثروات البلاد، وتأكيداً لسياسة ترامب الذي يحاول ولا يزال إعادة عقارب الساعة الى الوراء وفرض هيمنته من جديد على القارة كمبدأ جوهري من مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية، واشنطن تهيأ العالم فعلاً، لتقبل فكرة انقلاب عسكري، وكانها نتيجة حتمية لا بل ضرورية للقضاء على نظام دكتاتوري (على حد تعبيرهم).
ما يجري خطير، ولم يعد يتعلق فقط بإرادة الفنزويليين، بل هي لعبة السياسة الدولية وموازين القوى الكبرى في العالم، إدارة البيت الأبيض تعلم أن عالم القطب الواحد الأمريكي قد انتهى، لكنها ترفض التسليم بذلك، وتحاول إعادة اللاتينية كحديقة خلفية لها، علّها بذلك تعيد فرض موازين قوى تؤهلها للتفرغ لمواجهة أكثر صعوبة ومرارة في الشرق الأوسط وفي القلب منه المنطقة العربية.
الصهيونية، بدورها، ليست بعيدة عما يجري، وكعادتها، تحاول التحرك تحت الأقنعة، ودون ترك آثار مباشرة، فليس سراً أن فنزويلا هي الحليفة والصديقة لشعبنا الفلسطيني وقضيته، الثورة البوليفارية كانت المفتاح الذي ساعد شعبنا للحصول على اعتراف معظم دول اللاتينية والكاريبي، وتعريف الملايين من شعوب هذه المنطقة على حقيقة الاحتلال الاسرائيلي، هذه هي الحقيقة.
لذا فإن اسرائيل لا تخفي دعمها للمعارضة، التي عبرت على لسان غوايدو برغبتها في إعادة العلاقات مع اسرائيل ووصفها بالدولة الصديقة والضروية لإعادة الديمقراطية للبلاد !!
لا يمكن نكران الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها فنزويلا، والتي نجزم أنها ليست نتاجا للسياسات التي طبقتها الثورة البوليفارية (بغض النظر عن الأخطاء أوالتقصير وحتى الفساد الذي تعترف به نفس الحكومة) بقدر ما هو أزمة بنيوية يزيد عمرها عن خمسين عاما، لقد وصل تشافيز إلى الحكم وورث بلداً تجاوزت فيه نسبة الفقر المدقع 75% وارتفعت نسبة الجهل والعزوف عن التعليم، مجتمع طبقي أشبه ما يكون بمجتمع العبودية، حيث الملايين من الفنزويليين يسكنون العشوائيات ويمنعون حتى من استصدار هويات لمنعهم من ممارسة حقهم في الإنتخاب، محرومين من حقوقهم في التعليم والصحة والمسكن و... هذا هو الذي يفسر التفاف الفنزويليين حول تشافيز بصفته المخلّص والمنقذ، تشافيز الذي انتشل من الفقر عشرات الملايين، وأمّم شركة النفط الفنزويلية وأعاد توزيع الناتج القومي الفنزويلي بشكل أكثر عدلاً، بنى الجامعات وافتتح مئات المراكز الصحية، الأمر الذي لم يرق لليمين الفنزويلي، الذي سارع بالانقلاب عليه عام 2002، واستمر في التآمر على هذا النظام وهذه السياسة الاجتماعية التي سحبت الامتيازات والثروات من أيدي الطبقة المخملية ووزعها على عموم الشعب... نكاد نجزم أن عشرين عاما من الثورة البوليفارية لم تخلُ من حرب شاملة خاضها اليمين اقتصاديا وإعلاميا بل وحتى حربا نفسية هدفت إلى زرع اليأس في قلوب مناصري الثورة والفنزويليين بشكل عام.
لم تعترف المعارضة مطلقا بنتائج الانتخابات، مع العلم أن النظام الانتخابي الفنزويلي مصنف على أنه من الأكثر شفافية ونزاهة على مستوى العالم، وفقط تقبلت نتائج الانتخابات عامي 2007 و2015 عندما استطاعت في الأولى برفض نتائج استفتاء على تغيير أحد مواد الدستور، وفي الثانية بالفوز بالأغلبية الساحقة في البرلمان الذي لا تزال تسيطر عليه، أما في بقية الانتخابات (بلدية، حكام ولايات، رئاسيات) لم تتقبل المعارضة النتائج وبنت على عدم اعترافها سياسات لزعزعة الإستقرار وابتزاز الحكومة وإنهاكها ووضع العراقيل أمام كل المشاريع والبرامج الاقتصادية. بالمقابل تقبلت الثورة خسارتيها، واعترفت بالنتائج بشكل علني.
كيف لنا اذاً أن نحاكم نظاماً ورث بلداً مليئاً بالفساد والجهل وتسيطر عليه الشركات الخاصة، ونطالبه بأن يتنحى عن الحكم لمجرد أننا نرفض الانتخابات ونتائجها إذا لم تناسبنا؟؟؟ كيف لنا أن نتهم الثورة البوليفارية بالدكتاتورية وهي التي نظمت على مدار 20 عاما أكثر من 24 عملية انتخابات متعددة؟؟؟ كيف لنا أن نحاسب الثورة، دون الأخذ بعين الاعتبار كل العصي التي وضعتها المعارضة لعرقلة كل سياسات التكافل الاجتماعي وإعادة الهيكلة للاقتصاد المنهك أساسا؟؟؟ فنزويلا تدافع اليوم عن نفسها وسيادتها وثرواتها، لكنها تدافع أيضا عن حق الشعوب بالسلام وبتقرير مصيرها وبناء مستقبلها دون أي تدخل خارجي، تدافع عن عالم متعدد الأقطاب تتضح معالمه شيئا فشيئا حتى مع كتابة هذه السطور...
الولايات المتحدة تعلم أن كل التراجعات والارتدادات التي حدثت نحو اليمين في البرازيل والأرجنتين والإكوادور ستكون مؤقتة طالما يوجد ثورة بوليفارية في فنزويلا. فنزويلا هي العمود الفقري لكل التحولات الاجتماعية السياسية التي حدثت مع بداية الألفية الثانية وهي التي أجهضت اتفاقيات التجارة الحرة وشكلت البديل الذي يناسب دول المنطقة، ووقعت مع العديد من الدول اتفاقيات لتزويدها بالبترول بأسعار فائدة مخفضة عبر (بيتروكاريبي) كما ساهمت في تأسيس التكتلات القارية التي كان من شأنها وضع حد لهيمنة واشنطن وظهور اللاتينية كقطب عالمي جديد أشبه بالاتحاد الأوروبي، (اتحاد دول الجنوب "أوناسور"، مجموعة دول اللاتينية والكاريبي "سيلارك").
كل هذا يجعل الولايات المتحدة تكثف من ضغوطها الاقتصادية وحربها المباشرة على فنزويلا التي كانت قد بدأتها منذ عدة سنوات وبالتحديد عام 2015 عندما اعتبر اوباما أن فنزويلا تشكل تهديدا قوميا لأمن الولايات المتحدة !!!
اليوم تحاول الولايات المتحدة عبر صقورها، تصدر المشهد، تشدد الخناق على الثورة البوليفارية بحثاً عن انشقاقات داخل الجيش الذي يعتبر العمود الفقري لحماية البلاد والشرعية القائمة برئاسة نيكولاس مادورو، تكثف من عقوباتها لتأليب الشارع الفنزويلي، وترفع شعار المساعدات الإنسانية بقيمة 20 مليون دولار بيد، وتصادر أموالاً تابعة لشركة النفط الفنزويلية فاقت 20 مليار دولار بيد أخرى، كما قامت بريطانيا بالاستيلاء على 14 طن من الذهب الفنزويلي كانت موجودة في بريطانيا هي ملكية البنك المركزي الفنزويلي، وكفيلة بحل الأزمة الحالية التي تمر بها البلاد... العقوبات المفروضة على فنزويلا، تحد من قدرة الحكومة على شراء الأغذية والأدوية والمعدات الطبية اللازمة لسد احتياجات الشارع الفنزويلي ودفع عجلة الاقتصاد.
الجيش الفنزويلي يبدو متماسكا، وأعطى إشارات واضحة بوقوفه بشكل حازم إلى جانب الدستور والشرعية برئاسة نيكولاس مادورو، واستعداده للدفاع عن سيادة فنزويلا مهما كلف الثمن، فهم يعلمون أن أي تغيير باليافطات الأمريكية الكاذبة سيترك البلاد عرضة للجوارح الأمريكية وتكراراً للسيناريو العراقي والليبي، إضافة لذلك، تقف كل من روسيا والصين بشكل قوي سداً منيعاً أمام أطماع الولايات المتحدة، وهما حين يدافعان عن فنزويلا فهم يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم في إرساء العالم متعدد الأقطاب، الذي تعتبر فنزويلا ركيزة أساسية في بنائه.
إنها معركة لكسر العظام، الأزمة مرشحة للاستمرار طويلا، خاصة أمام اعتراف أكثر من 60 دولة بغوايدو رئيساً لفنزويلا، نستبعد تدخلاً عسكرياً مباشراً للولايات المتحدة، والمزيد من العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية، والحرب الإعلامية للبحث عن ثغرة ضمن صفوف الجيش، تحدق انقلابا عسكريا، كما لا يمكن استبعاد السيناريو الأسوأ، المتمثل في الاستفزازات المستمرة من قبل المعارضة لجر البلاد نحو حرب أهلية من شأنها تسهيل مهمة صقور واشنطن. ثقتنا عالية بالثورة البوليفارية، ولسنا ممن يقفون متفرجين أو منظرين، بل نقف في ذات الخندق مع ملايين البوليفاريين للدفاع عن كرامة وسيادة وحرية هذا الشعب بوجه برابرة العصر من حكام البيت الابيض.