■ بسياساتها اليومية، لا تتوقف السلطة الفلسطينية عن التأكيد على مدى الأزمة الخانقة التي تعيشها، وإن كانت تحاول، بين وقت وآخر، التمويه على هذه الأزمة بمناورات ضحلة، باتت مكشوفة لمعظم المراقبين، إن لم يكن جميعهم.
ولعل لعبة «الحكومة الفصائلية»، كما باتت تسمى، تشكل واحدة من هذه المناورات التي خرجت من جعبة الحاوي السياسي، كما يخرج الأرنب المسكين من قبعته. وما جعلنا نتساءل: ترى من هو المعني والممسك بالقرار الوطني، وبمصير المؤسسات الوطنية، إن في السلطة أو في م.ت.ف. فالاجتماعات الأخيرة، للجنة التنفيذية في المنظمة، كما وصلنا بعض أخبارها، من هنا وهناك، لم تناقش أبداً مسألة التغيير الحكومي، لا من أجل حكومة فصائلية، (وظيفتها كما أوضح بعض المتحدثين استكمال الانفكاك مع حركة حماس) ولا حكومة تكنوقراط. بل ناقشت من موقعها، المفترض أنها القيادة اليومية للشعب الفلسطيني، الأوضاع العامة، بما في ذلك الهجمة الاستيطانية، والتصعيد الإسرائيلي، ومخاطر التهويد المتلاحق في القدس، وقررت أن تستكمل اجتماعاتها (التشاورية وبغياب رئيسها) لوضع ما يمكن أن يسمى «خطة المواجهة».
لنكتشف، وتكتشف معنا اللجنة التنفيذية أنها في وادِ، وأن مركز القرار السياسي الأعلى في وادِ آخر، وأنها ليست هي القيادة اليومية للشعب الفلسطيني كما أوهموها، وأوهموا أعضاءها، ولما قرر المجلس الوطني، الذي انتخبها لتقوم بهذا الدور. حتى بتنا نشفق على أعضاء اللجنة التنفيذية، لما تتعرض له الهيئة جماعة، ويتعرض له أعضاؤها، فرادى، من تهكم وانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي. مدركين في قرار أنفسنا، أن الوضع الحالي للجنة التنفيذية هو عنوان من مجموع عناوين، تشكل في مجموعها، جوهر الأزمة السياسية للحالة الوطنية.
* * *
ما هي الحاجة الملحة لحكومة جديدة، فصائلية، في هذا الوقت بالذات؟.
المجلس المركزي، والمجلس الوطني اتخذا قرارات سياسية شديدة الأهمية تعيد صياغة الاستراتيجية السياسية للحالة الوطنية، ورسما جسراً للعبور من اتفاق أوسلو نحو العودة إلى البرنامج الوطني، وجسراً للعبور من سلطة فلسطينية بلا سلطة، نحو استعادة المكانة المفترض أن تحتلها الحالة الفلسطينية: حركة تحرر لشعب تحت الاحتلال، لا يملك سوى المقاومة في الميدان، وفي المحافل الدولية: لاستعادة حريته واستقلاله وحق أبنائه اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948.
ولعبوا لعبة الإحالات، من لجنة دراسة إلى لجنة أخرى، ومن دورة مجلس مركزي إلى دورة أخرى، جرى تكديس القرارات في أبعد درج في أحد الأقبية، في حالة نفي للاستراتيجية البديلة لمشروع أوسلو. واستحضرت بدلاً منها لعبة حل المجلس التشريعي، بناء على فتوى، مشكوك ومطعون في صحتها القانونية وجدواها السياسية، من قبل محكمة دستورية هي موضع خلاف وطني عميق.
ومن الطبيعي أن تثور زوبعة سياسية رداُ على القرار (وكأنه أريد لهذه الزوبعة أن تثور لتغطي على استبعاد قرارات المجلس المركزي والوطني.) وبدأت معركة الاحتراب الإعلامي، والتشكيك، والتشكيك المتبادل بشرعية هذا، وشرعية ذاك، وصولاً إلى مهاترات ألحقت بسمعة الشعب الفلسطيني، وسمعة قضيته ومشهدها أمام الرأي العام، أضراراً جسيمة. إلى أن تدخل الاتحاد الأوروبي ببيانه الشهير، حول انكشاف الغطاء السياسي عن حالة القيادة الراهنة، والمؤسسات الوطنية، وضرورة العودة إلى صندوق الاقتراع. وبدلاً من أن تكون النصيحة الأوروبية مدخلاً للبحث عن توافقات، ولو جزئية، تمهد لما هو أهم لليوم التالي، حاول البعض الزج بالحالة الوطنية الفلسطينية بدوامة جديدة، في طرح سؤال، حاول أن يتذاكى على الرأي العام: هل ننتخب مجلساً تشريعياً، نبقى من خلاله تحت سقف أوسلو، أم نذهب لننتخب مجلساً تأسيسياً (لا تكون حماس في عداده) من أجل الانتقال من السلطة إلى الدولة؟ هذا السؤال بسذاجته المفضوحة، وهزالة المناورة التي تقف خلفه، أثار سخرية الرأي العام. وأعادنا إلى ما كان يقوله للسلطة الفلسطينية شارون «نحن نرسم لكم حجم وظيفة السلطة ولكم أن تسموها ما تشاؤون، حتى ولو كانت إمبراطورية. المهم أن تلتزم بشروطنا». وبالتالي الذين أسعفتهم لعبة شارون، وحاولوا أن يلعبوها مع شعبهم، سرعان ما تكشفت ضحالة تفكيرهم، إذ سرعان ما طويت لعبة الانتقال من السلطة إلى الدولة، مع الإعلان عن حكومة فصائلية «هدفها فك الارتباط مع حماس من خلال حل حكومة الوفاق الوطني».
* * *
من الطبيعي أن تتفاوت الآراء بشأن الحكومة الفصائلية، بتفاوت الموقع السياسي لكل من الأطراف المدعوة للمشاركة؛ خاصة وأن الدعوة أعلنت دون مشاورات وحوارات مسبقة مع أحد، ما جعل كل طرف يدلي برأيه وموقفه. ولعل عمق المأزق، والأزمة السياسية لدى أصحاب الدعوة، هو ما جعل بعضهم يحول الحوار إلى احتراب وتهديد بأنه «لن يجري خلف الفصائل لتشارك في الحكومة»، علماً أنه يدرك أن هذه الفصائل (ومنها الجبهة الديمقراطية) ليست مستميتة لتشارك في حكومة، ترى الجبهة أن تشكيلها الآن وبهذه الصيغة، لا يخدم الموضوع الوطني.
لقد استمعنا خلف الجدران إلى كلام، حاول أن يقدم لنا جديداً، اعتقدنا أن من شأنه أن يحدث ثغره في جدار الصد السميك لدى السلطة لتجاوز بعض ملامح الأزمة تدريجياً وصولاً لاستعادة الوفاق الوطني حول قرارات المجلسين المركزي والوطني، لنكتشف أن الأزمة لدى مركز القرار أعمق مما هو بارز للعيان. من هنا قنبلة الحكومة الفصائلية.
المرحلة الحالية، بتعقيداتها، تتطلب، ليس حكومة فصائلية تواصل خوض حرب الانقسام والتفتيت الداخلي.
المرحلة الحالية تتطلب حكومة انتقالية، تتشكل من الكل الفلسطيني، تتولى سحب التوترات وإنهائها، والتحضير لانتخابات شاملة للرئاسة، وللمجلسين التشريعي (في السلطة) والوطني (في م.ت.ف) بنظام التمثيل النسبي الكامل.
ما يفترض دعوة هيئة تفعيل م.ت.ف للاجتماع (اللجنة التنفيذية والأمناء العامون، ورئيس المجلس الوطني، وشخصيات وطنية مستقلة) هناك يدار الحوار الوطني الشامل، وتوضع القضايا على الطاولة، وتولد التوافقات، ويعاد بناء الائتلاف الوطني، على قاعدة من الشراكة الوطنية، ويعاد تصويب وتصحيح العلاقات الداخلية.
هذا هو الحل الوطني.
كفى مناورات.■