• فرنسا.. هل بدأ حراك «السترات الصُفر» بالتراجع؟
    2018-12-20
    التراجع الكمّي لمحتجي «السترات الصفراء» (15/12)، «لا يخرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من دائرة الخطر»، كما نقلت وسائل إعلام فرنسية، حيث بقيت الحركة مُتشدّدة في مطالبها، وكالَ له المحتجون الشتائم وشدّدوا على مواصلة التظاهر، على الضد من دعوته إلى «الهدوء والنظام، وعودة الحياة الطبيعية للبلاد».
    وكان ماكرون قدّم مجموعة من «التنازلات» للمتظاهرين، لكن تدابيره لم تلقَ إجماعاً لدى «السترات الصفر» التي باتت تطالب بحزمة واسعة من المطالب، يقع في مقدّمها تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين بشكل أكبر، متعهدةً بمواصلة تحرّكها.
    «السترات الصفراء» تقلب المعادلة!
    وفي الواقع، فإن احتجاجات «السترات الصفراء» قلبت المعادلة، ودفعت الحكومة الفرنسية إلى التراجع، بعد أن بدت متعنّتة في الأسابيع الأولى، وحاولت إرغام المتظاهرين على الرضوخ!.
    وقد كشف الاحتجاجات عن وجه آخر لفرنسا، يختلف عن صورة فرنسا القوية التي تمتلك أحد أكبر الاقتصادات في أوروبا، وتقود مع ألمانيا الاتحاد الأوروبي؛ إنه وجه الطبقات الفقيرة والفئات الوسطى من المجتمع الفرنسي، التي تعاني من تآكل دخلها وتراجع مستوى معيشتها.
    وجاء قرار الرئيس ماكرون، زيادة أسعار الوقود (قبل أن يتراجع عنه لاحقاً)، ليكون بمثابة الشرارة «التي أشعلت النار في الهشيم»!، كما يقال. وخصوصاً لدى العمال وسائقي الشاحنات الذين يعتمدون في معيشتهم على قيادة سياراتهم إلى مواقع عملهم في المدن الكبيرة، أو نقل معداتهم وبضاعتهم إلى هذه المدن. وهكذا اندلعت الاحتجاجات الأكبر في فرنسا منذ مظاهرات الطلبة عام 1968.
    أما القرارات التي اتخذها ماكرون، والإجراءات التي يُمكن أن يُقْدِم عليها، فيمكن أن تُخفّف قليلاً من وقع الأزمة التي تعيشها الشرائح منخفضة الدخل، لكنها لن تنهي الأزمة تماماً لأن هذه الفئات تعاني من شعور واسع بالإحباط والغضب لأسباب عديدة، سنحاول في السطور التالية تسليط الضوء على أهمها.
    أزمة مركبة
    وفي هذا الصدد، يرى محللون أن المجتمعات الأوروبية، والغربية عامة، تعاني من أزمة مركبة؛ اقتصادية ومعيشية من جهة، وسياسية من جهة ثانية. فمنذ أن تخلّت دولة الرعاية، أو «الرفاه الاجتماعي» كما يطلق عليها البعض، عن الاضطلاع بمهامها المتعلقة بالخدمات المقدّمة لعموم المواطنين (مثل التعليم المجاني والتأمين الصحي ومعاشات التقاعد ومعونات البطالة.. الخ)، بدأت الطبقات والشرائح الاجتماعية الأدنى دخلاً تعاني من تراجع قدرتها الشرائية، ومستوى معيشتها عموماً، وخصوصاً بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في العام 2008، والتي لم تتعافَ منها نهائياً بعد الدول الغربية.
    وفي المقابل، فثمة من يرى أنّ نموذج «دولة الرعاية»، وعلى رغم مزاياه الاجتماعية الكبيرة، إلا أنه «خلق مشكلات كبيرة بسبب الأعباء الهائلة التي وضعها على عاتق الدولة»، بالنظر إلى «أعباء الخدمات الاجتماعية وكلفتها الباهظة» التي أدت إلى عجز كبير ومستمر في موازنات الدول التي تتبع هذا النهج، ومنها فرنسا طبعاً، وهو ما أفضى في المحصلة، إلى ابتعاد وهروب الكثير من الاستثمارات والشركات الكبرى، تجنّباً للضرائب التصاعدية العالية التي كانت مفروضة عليها في بلدها!.
    وكانت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، اليمينية المحافظة مارغريت تاتشر، قد قادت بالتعاون مع الرئيس الأميركي (الجمهوري اليميني)، رونالد ريغان، عملية التحول والانتقال من نموذج «دولة الرعاية» إلى النموذج «النيوليبرالي»، أو ما يعرف بالرأسمالية المتوحشة، بعد أن دخلت في حرب شرسة مع نقابات العمال، وذلك عبر الحدّ من تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، وفرض إجراءات واسعة للعودة إلى تحكّم السوق وقوانينه في هذه العملية.
    وقد حقّقت هذه العملية، في مراحلها الأولى، نجاحاً جزئياً أفضى إلى انتعاش الطبقة الوسطى واتساعها في كلا البلدين، (خاصة وأنه ترافق، بعد سنوات عدة، مع انهيار المنظومة الاشتراكية، وتحطّم النموذج البديل المنافس، بل والحديث عن «نهاية التاريخ» وانتصار الرأسمالية مرة واحدة وإلى الأبد!). وهو ما دفع ألمانيا إلى الحذو حذوهما، فيما بعد، ولكن من خلال نموذج خاص بها، جمع إلى حدٍّ ما بين «فضائل» النموذجين، وهو ما ساهم، في نظر البعض، في تحقيق انطلاقة جديدة للاقتصاد الألماني، وفي أن يصبح أكبر اقتصاد في أوروبا.
    أما في فرنسا فقد بقيت الأمور على حالها، وظل نموذج دولة الرعاية قائماً، كما ظلت النقابات والأحزاب اليسارية ترفض أي تنازل عن المكاسب التي حصلت عليها الطبقات الشعبية في المراحل السابقة.
    لكن، وبعد انكشاف الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الهشّة لكثير من الفئات الاجتماعية، إثر اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن الطبقة الوسطى، في كلا النموذجين، كانت ضحية النظام العام الذي ساد الدول الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي يبدو اليوم وكأنه يوشك على الانهيار، والسبب الرئيسي في ذلك، كما يقدر محللون، هو «تهميش وتغييب الطبقة المتوسطة التي أهملت في السنوات الأخيرة، وتفقير المزيد من الفئات الاجتماعية في ظلّ اقتصاد يزداد تغوّلاً وتوحشاً»!.
    معضلة ماكرون؟
    وقد وصل ماكرون إلى السلطة ببرنامج بديل، أقرب إلى النموذج البريطاني أو «الأنكلوساكسوني»، ولذلك فقد اتهم فوراً بأنه «رئيس الأثرياء»، وبأنه ضد الفقراء. ومن أوائل المراسيم التي أقرّها، في إطار ما أطلق عليه «إصلاحاته الاقتصادية»، كان إلغاء الضريبة على الثروة، أي «إعفاء الأغنياء من الضرائب وفرضها، بدلاً من ذلك، على الطبقات الفقيرة»، وهو ما انتبه إليه المحتجّون أخيراً وباتوا يضعونه كهدف نصب أعينهم.
    يضاف إلى ذلك، أن الميل نحو اعتماد النموذج النيوليبرالي، ترافق مع عملية توسّع الاتحاد الأوروبي شرقاً ليضم دولاً منخفضة الدخل (مع عدد كبير نسبياً من السكان)، وما نجم عن ذلك من «منافسة قاسية في سوق العمل الفرنسية من جانب العمال القادمين من شرق أوروبا (ناهيك عن المهاجرين الآخرين)، وتراجع فرص الفرنسيين في الحصول على دخل أفضل، في ظلّ وجود من يقبل نفس العمل بأجر أقل». صحيح أن السوق الأوروبية أتيح أمامها فرص التجارة بلا قيود مع الدول الجديدة في السوق، ولكنّ هذا حقق مكاسب واسعة للشركات والبنوك ورجال الأعمال، وليس للطبقات الشعبية.
    ولعلّ هذا ما يُفسّر مطالبة بعض المحتجين من «السترات الصفراء» بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وهم في هذا يتشابهون مع العمال البريطانيين الذين صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد لنفس السبب، من جملة أسباب أخرى عديدة.
    في الجانب السياسي
    أما في الشق السياسي، فيمكن التوقف عند العديد من الجوانب المؤثرة في المشهد السابق، لعلّ أهمها ذلك المتصل بمسار «العولمة» وجوانب القصور فيه ومسالكه المتعثرة التي اتبعت في الكثير من مناطق العالم، وما رافقها من إفقار وتهميش للعديد من البلدان والشعوب، وخصوصاً بعد الحرب الأميركية المُكلفة على أفغانستان والعراق، وما شاهده العالم من تلاعب وتوظيف سياسي لقضايا «الإرهاب» والجماعات المتطرفة، وقوى «الإسلام السياسي» عموماً.
    وإزاء ذلك، ومع تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية في ظل الحروب المتواصلة في غير مكان من العالم، وإفراغ الأنظمة الليبرالية الديمقراطية من جوانبها التقدمية الاجتماعية والانسانية (في ظل دولة الرعاية)، فإنّ ذلك كلّه ساهم، إلى هذه الدرجة أو تلك، بتعبيد الطريق أمام ظاهرة المدّ اليميني الشعبوي والقومي المتطرف في الكثير من البلدان الغربية، على حساب الأحزاب التقليدية المعروفة، لدى اليمين واليسار على حد سواء، فنجح التصويت على خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي «بريكست»، (على رغم المشاكل الكبيرة التي قد يخلّفها على المملكة والاتحاد الأوروبي معاً)، ثم انتخب الملياردير دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وفاز الشعبويين والقوميين في المجر والنمسا والتشيك وبولندا وإيطاليا، وأخيراً جايير بولسونارو في البرازيل، وتصاعد وتنامى حضورهم، إلى جانب بعض قوى اليسار الشعبوي المتطرف، في معظم الدول الغربية، ومنها فرنسا أيضاً، وصولاً إلى أميركا الجنوبية ودول أخرى في العالم.
    وترافق ذلك كلّه، مع فقدان الطبقات الشعبية لتمثيلها السياسي الحقيقي، وكذلك تمثيلاتها الوسيطة (النقابية والمهنية)، التي أصبحت تعتبرها «مهادنة للسلطات وغير قادرة على تمثيلها»، وباتت تميل إلى انتخاب جهات وتيارات تَعِدُها بإعادة «السلطة المفقودة» إليها.
    وهكذا لاحظنا أنّ المتظاهرين في فرنسا، وكذلك في بلجيكا، لا ينتمون إلى أي حزب من أحزاب المعارضة، ولا إلى النقابات المعروفة أيضاً. وثمة من يرى أنّ الأحزاب السياسية، في الحكم والمعارضة على حد سواء، باتت تمارس سياسة لا علاقة لها بالمجتمع، «سياسة تجريدية يمكن حسابها بالأرقام والأصوات وليس بالبرامج والمضامين الاجتماعية الشعبية»، على حد تعبير البعض. وهذا بحد ذاته، كما يضيف هؤلاء، «دليلٌ على عمق الحدث الفرنسي الجديد، كحدث شبيه بالحدث التاريخي لمظاهرات الطلاب قبل نصف قرن»!!.

    http://www.alhourriah.ps/article/52120