لم نكن يوما لنشك فى ان التطبيع بين النظام الرسمي العربى (الرجعى) وكيان الاحتلال الإسرائيلي دونه عراقيل ومشكلات، بل منذ اللحظات الأولى لنكبة الشعب الفلسطيني كانت هناك اتصالات مباشرة وغير مباشرة مع مسؤولين اسرائيليين، مرة تحت ذريعة التخفيف من الخسائر ومرة أخرى من اجل معالجة الوضع الإنساني الناشيء عن العدوان، لكن في المحصلة النهائية كان الجميع يلتقي عن ضرورة الاعتراف بالواقع المستجد المتمثل بوجود الاحتلال الذي تم تشريعه قانونا عبر الاعتراف به عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة ومؤسساتها..
كان للاستعمارين البريطاني والفرنسي دورا هاما ورئيسيا في اخراج هذا المولود الى حيز الوجود عبر مده بكل اشكال الدعم بنفخ الروح فيه بريطانيا ومده بسبل البقاء امريكيا وبقوة الردع فرنسيا. الا ان هذا ظل، بعين المنظرين الاستعماريين الأوائل، ناقصا ما لم يقرن بحاضنة إقليمية تعمل على التخفيف من وطأة ما ما حدث وما سيحدث لاحقا، فجرى العمل على التزواج بين اشكال الدعم الاستعمارى لهذا المشروع و بين خلق كيانات عربيه ترتبط مصيريا معه. خاصة وان خلفية تأسيس بعض الدول جاء بدعم الاستعمار البريطاني الذي وجد فيها ضمانة لحماية طرق الامداد الى المستعمرات خاصىة في الهند. وهنا يمكن الإشارة الى خلفيات توحيد القبائل والامارات المختلفة تحت حكم القبيله الاكبر نفوذا لتتسلم قيادة هذه الدولة التي أصبحت فيما بعد ركنا أساسيا من اركان المشروع الغربي في المنطقة.
غير ان ضمان طرق الامداد لم يكن السبب الوحيد، فكان لا بد من شرطي للمنطقة يتكامل دوره مع الدور المطلوب من بعض الأنظمة الرسمية العربية الى كانت إسرائيل الذي حلت للاستعمار الغربي مشكلتين: أولها ضمان المصالح الغربي في المنطقة من خلال التلاقي او الاندماج بين اطماع الدول الاستعمارية والمزاعم التاريخية للحركة الصهيونية، وثاني هذه الأسباب كسر الغيتو اليهودي في الكثير من الدول الأوروبية التي رأت بهذا المشروع فرصة للتخلص من مكائد الحركة الصهيونية والشعارات التي كانت ترفعها بكره الشعوب الأوروبية لليهود.. وعلى هذه الأرضية تلاقت مصالح الاستعمار الغربي والحركة الصهيونية ومصالح زعماء القبائل العربية الذين وجدوا بالدعم الغربي فرصة للحفاظ على سلطتها.. ولنا في ثورة عام 1936 اكبر مثال لجهة التدخلات الرسمية العربية على اعلى المستويات والتي افضت الى جانب اسباب أخرى في رب الثورة وركائزة وهي التي كانت على اعتاب فرض مطالبها وضروطها على المستعمر..
لم تكتف الدول الاستعمارية بتكثيف علاقاتها مع الدول السابقة، بل مدت خيوطها باتجاه دول في شمال افريقيا لتحكم قبضتها بشكل كامل على الوطن العربي ولتكون قادرة على الوقوف في فى وجه المشروع التحرري العربى ومناصبته العداء من قبل بعض هذه الدول التي دعمت حركات سياسية مناوئة لهذا المشروع ومدته بالمال والعتاد بحيث باتت الصراعات اليوم في بعض الدول تتقدم على الصراع الأساسي مع العدو الإسرائيلي. ولعل الفارق بين اليوم والامس هو انه ما كان يجري سرا ومن تحت الطاولة اصبح اليوم امرا طبيعيا، بل ان بعضهم بات يتباهى انه اول من طرق باب إسرائيل لدرجة يمكن اطلاق وصف "ماراثون التطبيع" على الحالة التي وصلها النظام الرسمي العربي في تعاطيه مع التحديات التي تواجه كل المنطقة العربية..
مسار الاحداث في المنطقة العربية منذ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وحتى اليوم، يبرز ان ليس هناك من حدث، مهما كان بسيطا، الا وكان مخططا له، لكن تختلف التطبيقات بين بلد ممانع ولديه حد من الحصانة الوطنية وبلد آخر ابوابه مشرعه امام التدخلات والمكائد الخارجية.. فمن حرب اكتوبر عام 1973 والتي افضت الى انتصار عربي حقيقي الى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والتي كانت بداية الاختراق الإسرائيلي الرسمي للجسم العربي، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة ومعلنة من التطبيع الرسمي مع إسرائيل من المغرب وتونس الى الاردن وقطر والبحرين والامارات والسعودية وغيرها من دول لم تعد تجد بالعداء لإسرائيل امرا مربحا وتحت يافطة "العصر الأمريكي، الى تفكك الاتحاد السوفياتى ووحرب الخليج التي قضت على ما تبقى من شيء كان اسمه "تضامن عربي"، الى دخول الجيش الاميركى الأراضي العربية واحتلاله لدول الخليج العربى تحت مسميات متعدده، الى ابتداع وهم "الصراع السني الشيعي" ثم "ثورات الربيع العربي" وما تبعها من فوضى لا زالت تعم اكثر من بلد عربي..
اما على المستوى الفلسطيني، فقد جاء اتفاق اوسلو ليشكل نهاية لفصل انطلقت مشاهده منذ زمن، وليقدم ذريعة لبعض الدول التي ظلت حتى وقت قريب متكتمة على علاقاتها باسرائيل، ولترتفع عاليا يافطة "لن نكون ملكيين اكثر من الملك"، وهنا صدق من قال: "اذا كان رب البيت بالدف ضارب فشيمة اهل البيت الرقص". ورغم ان هذا الشعار كان اعلانا رسميا من النظام الرسمي العربي لانتهاء حالة العداء مع اسرائيل، فان القيادة الرسمية الفلسطينية لم تقدم المثال الجيد او النموذج الذي يجب ان يحاذى به، بل بعض رموز هذه القيادة كانت حريصة على تحقيق الاختراق في الجسم العربي لتبرير سياساتها التي يمكن اختصارها بشعار " يا وحدنا"، بينما على ارض الميدان كان المشروع الاسرائيلي يحقق اختراقات كبيرة سواء على مستوى الاستيطان والتهويد او على المستوى الداخلي بمحاصرة الفلسطينيين في الضفة وفي اراضي عام ١٩٤٨ بعشرات القوانين العنصرية التي توجت جميعهابقانون القومية اليهودية في اسرائيل والذي اعلن عن بداية مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني.
اذا كان جوهر المشروع الامريكي الاسرائيلي "صفقة القرن" يستهدف القضية الفلسطينية بجميع عناوينها، فان الشعوب العربية ليس بمنأى عن تداعيات هذا المشروع، بل هي مستهدفو بأرضها وثراتها وسيادتها وبحقها في اختيار مستقبلها السياسي والاقتصادي ما يجعل من النضال العربي والفلسطيني امر ملحا سولء لجهة التنسيق بين قوى المقاومة في فلسطين وقوى الممانعة على مساحة العالم العربي، خاصة لجهة مقاومة التطبيع وتفعيل حملات المقاطعة للبضائع والمنتوجات الامريكية ، اذ ليس منطقيا ان تكون حملات المقاطعة(BDS) في الدول الاوروبية متقدمة واكثر زخما مماهو حاصل في الدول العربية، وهذا يطرح مهمات مباشرة على جدول اعمال الحركات الشعبية العربية سواء كانت احزاب سياسية او مؤسسات نقابية واجتماعية وروحية وهيئات شعبية..
فلسطينيا المطلوب اليوم هو طي مرحلة اوسلو والسعى لفك الارتباط بجميع الافرازات السلبية لهذه المرحلة ما يفتح الباب واسعا امام مهمة اعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني باعتباره مشروعا تحرريا وهذا مل يتطلب انهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على قاعدة الشراكة الوطنية الكاملة وانهاء جميع البنى السياسية التي ادت وتقود الى تأسيس نظام فلسطيني تسلطي لا مكان فيه لتعددية سياسية كانت يوما ما محط اعتزاز كل الفلسطينيين.