هل غيّرت رواية الانتفاضة صورةَ «الآخر»؟
2018-12-10
لقد اتخذت صورة الآخر في مرحلة الانتفاضة أبعاداً وأشكالاً مختلفة، كان أهمها الاقتراب أكثر والتحديق في هذا "الآخر" من دون أوهام، ولهذا فقد تعدد الآخر وتعددت ألوانه.
ومع اندلاع الانتفاضة الكبرى في العام (1987)، حدث أمران مهمان جداً:
الأول: صعود فكرة المقاومة وإمكانية الانتصار.
الثاني: القبول بفكرة "إسرائيل" والتعايش معها.
وهذا قد يحير المرء، إذ نجد وجهتي نظر متعارضتين تماماً، ولكنّ هذا ما حدث، فما لم يقبله الشعب الفلسطيني قبل الانتفاضة (كاتفاقات كامب ديفيد مثلاً) تم قبوله الآن من خلال صيغة مؤتمر مدريد عام (1992)، ومن ثم إعلان اتفاق أوسلو في العام (1993). قد يقال هنا إن انهيار العالم ثنائي القطب أولاً، ومن ثم انهيار النظام العربي خلال حرب الخليج الأولى ثانياً، هما اللذان دفعا باتجاه قبول ما لا يُقبَل، ولكن نحن هنا بصدد الوصف والترتيب وليس بصدد التحليل السياسي، فالفترة ما بين (87-94) شهدت تحولات عميقة في منطقة ضيقة، ليس على مستوى العالم العربي وإنما على مستوى العالم، حتى أن كتاب "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما ظهر في تلك المرحلة ليؤصل انتصار العالم الرأسمالي الغربي الديمقراطي وانتهاء تحدياته ( فرانسيس فوكوياما: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط1، 1993). واستعاد العالم –الغربي بخاصة، وكذلك العالم العربي– أفكاراً وأساطير ومعتقداتٍ تُوحي بنهاية العالم والمعارك الأخيرة الفاصلة، والنتيجة تفكّكُ النظام العربي وقبول الفلسطينيين بـ(20%) من فلسطين التاريخية في إعلان اتفاقٍ غامضٍ ومُثيرٍ للشبهات.
وفي هذه المدة المضطربة؛ مرحلة ما بعد السلام، دخل معظم الكُتّاب مرحلة اللايقين والشك والتردد، فحصوا مقولاتهم، وتشككوا فيما لهجوا به طوال الوقت، وأدركت بعضهم الخيبة، ولحق ببعضهم الآخر ما لحق بالمشهد كله من رماد. ولأن هذه المرحلة كانت من الغنى وتعدد الأصوات والرؤى والاجتهادات، فإنني سأكتفي بالإشارة إلى الأعمال الأهم، وتلك التي كانت على تماسٍ مع صورة الآخر على خلفية الدمار السياسي والتراجع الكبير الذي أصاب المسلَّمات كلها.
فإميل حبيبي –وهو عضو كنيست وزعيم الحزب الشيوعي، ثم انقلب على ذلك كله– ينشر رواية "سرايا بنت الغول" في العام (1991) ليكشف خديعته الكبرى، وليراجع مجمل حياته ليكتشف أخطاءه، والآخر في هذه الرواية يظهر من وراء حجاب شفيف، ولكنه "آخر" ضاغط ومسيطر وحاضر، والأهم من هذا كله أنه غبي ويثير ليس فقط السخرية وإنما الشفقة –الآخر لدى إميل حبيبي يثير السخرية دائماً بغبائه وإفراطه في حذره وتوجسه.
وفي العام (1990) تكتب سحر خليفة روايتها "باب الساحة" لترصد هزيمة "الأنا" أمام الآخر، وتتناول في روايتها هذه هزيمة "أنا" المرأة بشكل خاص.
ثم انهالت الروايات بعد العام (1994)، وكلها ترصد حرقة الفشل وطعم الخيبة. فقد نشر أحمد حرب روايته "بقايا" في العام (1996)، وفيها يكتب بصراحةٍ عن فشل الثورة ويقدم صورة الآخر بأشكاله المعهودة، جندياً وقاتلاً ومحققاً ومخادعاً. ويكتب أحمد رفيق عوض رواية "مقامات العشاق والتجار" في العام (1997) ليكتب عن المجتمع الفلسطيني الجديد بعد أُوسلو واضطرابه وعدم اتساقه مع المعطيات، ويقدم صورة لـ"الآخر" العدو و"الآخر" الداخلي، ويتوسع الكاتب أحمد رفيق عوض في الآخر الذي يكتب عنه، وذلك في رواية "آخر القرن" التي نشرها في العام (1999)، حيث صار الآخر ليس فقط الآخر المحتل وإنما الآخر الإمبريالي -وهذا توسيع ملحوظ، ويكتسب أهمية في مفهوم الآخر بالنسبة للفلسطينيين، خصوصاً في نهاية القرن العشرين.
ويكتب يحيى يخلف رواية "نهر يستحم في البحيرة" التي نشرها في العام (1997) ليرسم صورة الآخر الذي لا يمكن التصالح معه –يحيى يخلف من الكُتّاب الذين عادوا حسب اتفاق أوسلو في العام (1994)، وشغل مراكز عليا في السلطة، لكنه في هذه الرواية يُنكر أن يكون هناك اتفاق مع المحتل.
يمكن القول إن فترة ما بعد أوسلو شهدت خطاباً روائياً متشككاً في النظر إلى الذات، لكنه في الوقت عينه تشدد في تصوير الآخر مع محاولة لتوسيع مفهومه وسحبه على الآخر الإمبريالي الذي يدعمه.
ويمكن القول، أيضاً، إن مرحلة ما يسمى "السلام" قد أفضت إلى فوضى في تحديد الاتجاه، إلا أنه من الصحيح القول إن الآخر عاد إلى صورته الأولى التي رسمها له مثقفو أوائل القرن الماضي؛ الآخر محتلاً، غاصباً، مهما تعددت أسماؤه وألوانه، وكأنّ اتفاق السلام الذي تمّ قد نزع الغشاوة كلها. ففي هذه المرحلة لم تعد هناك أوهامٌ ولا أفكار، صار الآخر قريباً ومكشوفاً ونواياه وأطماعه وأعماله واضحة الوضوح كله، وهذا ما نجده سافراً في رواية سحر خليفة "الميراث"، حيث انتقدت بشدة اتفاق أوسلو، وكذلك عزت الغزاوي في رواية "الخطوات"، انتقد بشدة ارتماء الحركة الوطنية الفلسطينية في أحضان عدوها.
روح التشكك والتردد والغموض وجلد الذات ملمح أساس في روايات هذه المرحلة، ولكن، ظهر الآخر واضحاً تماماً، وعاد كما كان. صحيح أنَّ النعوت لم تعد كما كانت في أوائل القرن الماضي، ولكنّ صورة الآخر كمغتصب ومتعصب ظلّت هي المسيطرة .