كادت الأزمة التي أصابت الحكومة الإسرائيلية أن تطيح بها. وخلافاً لتجارب سابقة، جهد نتنياهو هذه المرة من أجل الحفاظ على الائتلاف الحكومي، وتحاشي الذهاب إلى انتخابات مبكرة، على الرغم من معرفته أن حزبه لايزال هو الأقوى والأكبر في الخريطة الحزبية والسياسية الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن استمرار الائتلاف الحكومي حتى نهاية ولاية الكنيست بعد عام تقريباً من الآن غير مضمون كونه يقوم على أغلبية ضئيلة؛ وهو ما يستدعي من رئيس الوزراء وحلفائه الحذر من اتخاذ القرارات التي يمكن أن تؤدي إلى انفراط عقد الحكومة.
وسيبقى نتنياهو حتى موعد الانتخابات القادمة محكوماً بهاجسي ثبات الحكومة، واتخاذ الإجراءات وسن القوانين التي من شأنها أن تفتح الباب واسعاً لعودة الائتلاف اليميني المتطرف إلى سده الحكم في إسرائيل.
حاول ليبرمان انعاش حظوظه السياسية في منافسة بنيامين نتنياهو على منصب رئيس الوزراء، أو في الحد الأدنى تعزيز مكانة حزبه في الكنيست على خلفية الاستقالة، التي تقدم بها احتجاجاً على سياسة الحكومة التي وصفها بـ«المتخاذلة» أمام المقاومة الفلسطينية. وعلى الرغم من أن منصب وزير الحرب يعود في العادة على متقلده بشعبية معقولة في استطلاعات الرأي، إلا أن ما حصل مع ليبرمان كان العكس. ويعزو المراقبون السبب إلى تعارض مواقفه مع توصيات المؤسسة الأمنية التي حذرت دوماً من التصعيد ضد غزة ونصحت بإبرام التهدئة مع القطاع.
لقد فرضت استقالة ليبرمان أسلوباً مختلفاً في أداء الحكومة الاسرائيلية من خلال لجوء أقطابها إلى تجنب الخوض في قرارات غير محسوبة لجهة تداعياتها على باقي الأطراف في المشهد السياسي الصهيوني. وسبب ذلك أن نتنياهو وأقطاب حكومته يريدون حصر المعارك المتوقعة في الكنيست في دائرة الاجراءات والقوانين التي يرونها ملحة وضرورية، وخاصة فيما يتعلق بتخفيض نسبة الحسم في الانتخابات القادمة.
فنتنياهو سيحاول تمرير قانون يخفَّض هذه النسبة في انتخابات الكنيست من 3,25% إلى 2% أو 2,5% من مجموع أصوات المقترعين؛ لأنه يرى أن ذلك يعزز فرص معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل للبقاء في سدة الحكم، المتطرف. ومن المعروف أن نسبة الحسم المنخفضة تشجع على بروز كيانات جديدة أو منشقة عن أحزابها، ويحفزها انخفاض النسبة على خوض الانتخابات. وعلى اعتبار أن نتنياهو لا يعاني منذ سنوات من منافسة داخل حزبه ولا يتوقع حدوث ذلك قريباً، فان تخفيض نسبة الحسم لا يسبب له المتاعب، بينما يراهن هو على تفكك أحزاب وكيانات أخرى مثل حزب «شاس» الديني و«القائمة المشتركة»، التي تشكلت على خلفية ارتفاع هذه النسبة، ومن الممكن بعد تخفيضها أن تخوض الانتخابات في أكثر من قائمة؛ ما قد يؤدي إلى تقليص عدد مقاعدها في الكنيست.
تأجيل الانتخابات يخدم نتنياهو كثيراً في هذه المرحلة، ويمكنه من التعامل بشكل أفضل مع عدد من القضايا الشائكة التي تواجهه، وفي مقدمتها الملفات الجنائية، وهاجس التوقيت الذي سيقرر فيه المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت تقديم لائحة اتهام ضده، ويتوقع أن يكون الموعد في شباط/ فبراير 2019 كحد أقصى. وفي حال بقائه في منصبه حتى ذلك التاريخ، فإنه غير ملزم بالتنحي وفق القانون الإسرائيلي، ويريد نتنياهو أن يكون في الفترة التي تقدم فيها ضده لائحة الاتهام رئيسًا للحكومة، وليس رئيسًا لحكومة انتقالية مشغولاً في حملة الانتخابات. إلى جانب ذلك، يعتقد مراقبون أن نتنياهو يفضل أن يأتي موعد الإعلان عن «صفقة القرن» قبل حل الكنيست، ويتوقعون أن يتم الاتفاق بشأن توقيت هذا الإعلان بين ترامب ونتنياهو؛ خدمة لحسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي.
إلى جانب ذلك، يسعى نتنياهو لسن العديد من القوانين التي تخدمه قبل حل الكنيست الحالي، مثل القانون الذي يلزم رئيس الدولة بتكليف رئيس الحزب الذي يحظى بتوصية أكبر عدد من أعضاء الكنيست. ففي حال توجيه لائحة اتهام ضد نتنياهو، فإنه يخشى أن لا يكلفه غريمه رئيس الدولة رؤوفين ريفلين بتشكيل الحكومة بعد الانتخابات المقبلة للكنيست، وإنما يكلف أحد قادة حزب الليكود بتشكيل الحكومة. وهذا من شأنه أن يشعل المنافسة داخل حزبه ويعيده إلى مرحلة الصراعات الداخلية التي أنهكته في المرحلة التي تلت خروج شارون منه وتشكيله حزب «كاديما» في العام 2005.
وحتى يتجاوز هذه الهواجس، كثف نتنياهو اتصالاته برؤساء أحزاب الائتلاف الحكومي مركزاً على أن مصلحة «أمن إسرائيل» تقتضي الحفاظ الائتلاف وعدم تبكير الانتخابات مضيفاً« إسرائيل ما زالت في خضم معركة لم تنته بعد، وأنه في أثناء المعركة لا يتم اللعب بالسياسة وإسقاط الحكومة؛ فأمن الدولة أهم من اللعبة السياسية الحزبية والمصالح الشخصية». وذلك في سياق احتواء تهديد رئيس حزب «البيت اليهودي» بالاستقالة في حال لم يوافق نتنياهو على تقليده وزارة الحرب.
وبالفعل تمكن نتنياهو من الخلاص من احتمال الانتخابات المبكرة والحفاظ على حكومته، على الرغم من الأزمة الحادة التي تعرضت لها. ويرى مراقبون أن هذه الأزمة ربما عززت مكانته. وحتى موعد الانتخابات القادمة، سيسعى نتنياهو إلى تعزيز هذه المكانة من خلال المباشرة بحملة انتخابية غير معلنة، والمجال الأرحب بالنسبة له هو الميدان الفلسطيني. وليس مصادفة أن تنفلت بشكل غير مسبوق حملات هدم البيوت وطرد سكانها الفلسطينيين في مدينة القدس ومحيطها، إلى جانب التغول في الاستيطان.
كما توفر له «صفقة القرن» مناخاً سياسياً يؤهله للمزايدة على خصومه ومنافسيه من زاوية تبني الخطة الأميركية لخطته «السلام الاقتصادي»، التي طرحها قبل سنوات من مجيء إدارة ترامب. كما توفر الاجراءات التطبيعية المتسارعة من قبل دول عربية واسلامية له خطابا يمجد فيه «إنجازاته» على هذا الصعيد، والتبجح بفشل المحاولات لعزل إسرائيل، مع أنه يدرك أن حملة مقاطعة الاحتلال تحرز انجازات هامة، لكن المؤسف فعلا أن مسلسل المواقف التطبيعية لا تشجع الاحتلال فقط في التمادي بالعدوان على الشعب الفلسطيني، بل وتشكل أيضاً طعنة في صميم الحقوق الوطنية لهذا الشعب، من خلال فك الارتباط مع أولوية تأمين هذه الحقوق وتجسيدها قبل أية علاقة رسمية أو غير رسمية مع العدو الإسرائيلي.
على كل وقبل أن نطالب الغير بمقاطعة الاحتلال وعدم التطبيع معه، على القيادة الرسمية الفلسطينية التزام قرارات المجلسين الوطني والمركزي بسحب الاعتراف بإسرائيل والخروج من بقايا «أوسلو» وقيود هذا الاتفاق السياسية والأمنية والاقتصادية، وتبني خيار مقارعة الاحتلال في الميدان وفي السياسة.