مرت اكثر من سبعة عقود على الصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي ولا زالت جميع العمليات التي بذلت للتوصل الى تسوية، تصطدم بالعديد من الجدران التي تجعلنا نصل الى استنتاج مفاده انه كلما مرت الأيام كلما تضاءلت فرص التوصل الى تسوية متوازنة، وكلما ازداد المجتمع الإسرائيلي تطرفا وعنجهية، بحيث ما كان يقبله بالأمس لم يعد يقبله اليوم وما يقبله اليوم هو حكما لن يقبله غدا، وهذا امر تفرضه موازين القوى المحلية والعربية والدولية التي تميل اكثر لصالح العدو..
اليوم بعد مرور اكثر من ربع قرن على عملية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي انطلقت من مدريد، ترتسم اكثر من علامة استفهام حول مصير التسوية، رغم ان الفلسطينيين على المستويين الشعبي والفصائلي قد قالوا منذ مدة بأن هذه التسوية حتى في حال نجاحها، فهي لن تقدم للشعب الفلسطيني الحد الأدنى مما يمكن ان يقبل وطنيا، رغم ان الإسرائيليين غير آبهين وغير مهتمين أصلا بالتوصل الى تسوية، وهو امر طبيعي طالما ان المشروع الصهيوني بمختلف عناوينه يتحقق في الميدان دون ان تحتاج إسرائيل لمفاوضات واتفاقات تكرس بها ما تقوم بفرضه واقعا على الأرض..
رغم ان هذه الخلاصة هي نتيجة واقع معاش منذ سنوات، الا ان واقعا جديداً بدأ يتشكل منذ تسلم الرئيس الأمريكي وادارته زمام السلطة في الولايات المتحدة والتي سعت الى فرض مجموعة خطوات تشكل تناقضا مع منطق التسوية، وبالتالي من الاستحالة بمكان التوفيق بين منطق التفاوض والتسوية ومنطق الفرض المباشر من طرف يعتقد انه بقوته السياسية والاقتصادية والعسكرية قادر على تمرير مشروع عجزت عن فرضه جميع الادارات الامريكية منذ النكبة وحتى اليوم، رغم ان حليفتها شنت خلال تلك الفترة اكثر من عشرة حروب تدميرية، لكن ظلت عاجزة عن فرض الهزيمة على الفلسطينيين الذين ما زالوا صامدين متمسكين بمطالبهم التي لا يمكن أن تسقطها مشاريع الفرض السياسي والعسكري. ومن هذه الإجراءات التي ستخلق واقعا جديدا من الصعوبة تجاهل تداعياتها المتوقعه:
أولا: قرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده من تل ابيب الى القدس واعترافه بها كعاصمة لـ "دولة إسرائيل" متجاهلا الإرادة الدولية وموقف المجتمع الدولي المعبر عنه في رفض الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الاجراء.. والذي يمكن الاستفادة منه والبناء عليه لجهة تحصين أي موقف فلسطيني مستقبلي يريد الذهاب بعيدا في عملية المواجهة مع السياسات الامريكية والاسرائيلية.
ثانيا: إقرار الكنيست لـ"قانون يهودية الدولة في إسرائيل" وما سيتركه من تداعيات سواء على مستوى مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين او لجهة الموقف من فلسطينيي عام 1948، والذين يعتبرون مواطنين إسرائيليين، لكن لا تسري عليهم حقوق المواطنة وفقا للقانون السابق الذي يعتبر ان "دولة إسرائيل" هي وطن الشعب اليهودي فقط الذي له الحق وحده في تقرير مصيرة في اطار هذه الدولة. وهذا القانون هو جزء من التشريعات الاساسية لدولة الاحتلال، ويعني أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويعطيهم الحق الحصري في تقرير مصير في هذه الأرض التي اسمها فلسطين. وهو ما دفع منظمة العفو الدولية إلى القول بأن "إسرائيل بهذا القانون ترسّخ وتعزّز 70 عامًا من التمييز واللامساواة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة".
كما يلغي هذا القانون حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين يعتبرون حتى هذه اللحظة أصحاب الأرض الحقيقيين وليست هناك من وثيقة تؤكد تنازل اللاجئين عن أراضيهم وممتلكاتهم التي تركوها عام 1948 نتيجة عمليات والإرهاب التي ارتكبتها المجموعات الصهيونية. وان هذا القانون يقدم بديلا آخر بدعمه عمليات الاستيطان واعتباره قيمة قومية يجب تثبيته كركن من اركان الدولة. هذا إضافة الى الموقف من القدس حيث يعتبرها عاصمة موحدة لإسرائيل، وبالتالي ينهي هذا التشريع كل الملفات العالقة التي كانت محل تفاوض.
ثالثا: طرح الإدارة الامريكية لمشروع حل سياسي اطلقت عليه اسم "صفقة القرن" والذي يحقق في جميع عناوينه مصلحة إسرائيلية مباشرة ويستجيب للمطالب الإسرائيلية بشكل كامل لدرجة المبالغة في توصيف واقع هذه الإدارة الامريكية التي قدمت لإسرائيل اكثر مما كان يطالب سابقا زعماء إسرائيل انفسهم. والاهم من ذلك ان هذه الإدارة تطرح هذا المشروع للتطبيق المباشر بشكل يتعاكس مع كل أصول التفاوض.. ووفقا لما قالته مندوبة الولايات المتحدة في الاممم المتحدة نيكي هايلي:"ان هذا المشروع ليس مطروحا للتفاوض، واذا كان الفلسطينيون يرفضونه فلن نطلب منهم الموافقة لأننا ذاهبون الى التنفيذ بمفردنا"
اما على المستوى العربي، فان الموقف الرسمي للكثير من الأنظمة العربية استبق أي اتفاق ممكن باجراءات تطبيعية آحادية الجانب لتنسف بذلك ليس فقط مواقفها السابقة برفض أي خطوات تطبيعية قبل انهاء تسوية عادلة للصراع مع إسرائيلي، بل هي تقدم طعنة للشعب الفلسطيني الذي ما زال في قلب العاصفة يصارع من اجل حقوقه الوطنية ولم يسترجع حقوقه بعد. ورغم ذلك نجد ان مسؤولين عربا وبالتحديد من دول خليجية يذهبون بعيدا في العلاقة مع إسرائيل. فبعضهم يعتبر "ان من حق اسرائيل العيش بسلام.. وإذا رفض الفلسطينيون عروض السلام فلن يلوموا إلا أنفسهم"، فيما يعتبر آخرون ان الإسرائيليين يمكن ان يكون لهم مكان في المنطقة العربية، وقال ثالث ان إسرائيل ليست عدوة السلام ولم تبد امام العرب الا كل خير.
ويبدو ان العبرة التي استفاد منها الرئيس الامريكي الحالي دونالد ترامب من تجربه اسلافه السابقين هو عدم انتظار موافقة طرفي التفاوض، وانه سيقوم بفرض مشروعه السياسي فرضا، وبالطبع ان الطرف الأضعف هو من سيدفع الثمن. وهو يسعى الى البحث عن ركائز محلية وإقليمية مدعومة بالحديث عن إغراءات اقتصادية يمكن ان تقدم بعيدا عن طاولة المفاوضات. وهذا بالتحديد هو جوهر المشروع الأمريكي الذي يعتمد بشكل رئيسي على الجانب الاقتصادي، رغم ان تجربة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في السابق اكدت فشل المراهنة على الجانب الاقتصادي فقد ما يكن مقرونا باجراءات على الأرض يشعر عبرها الفلسطيني ان إسرائيل جادة في الاستجابة لاستحقاقات أي تسوية. والامريكيون يعتقدون ان المراهنة على الجانب الاقتصادي قد يفتح مسارا جديدا قد يساعد على الخروج من النفق المسدود، ويخلق بيئة سياسية جديدة ربما تقود إلى عملية تسوية شاملة وهو الاغراءات الاقتصادية ومحاولة استبدال المعركة السياسية بالاموال والمشاريع الاقتصادية.. التي تسعى لبناء علاقات تجارية بين "إسرائيل" والضفة وغزة، تكون ممراً لتسوية سياسية مستقبلية، تنطلق دوافع الأولى من حاجتها للأمن والهدوء، وحاجة الفلسطينيين للرخاء الاقتصادي.
ان استبدال المعركة السياسية بالابتزاز الاقتصادي، أمر في غاية الخطورة والغرض الرئيسي منه هو تمييع القضية الفلسطينية، واعتبارها قضية إنسانية واقتصادية وليست قضية سياسية وقضية حقوق مغتصبة وأراض محتلة ويجب استرجاعها.
لذلك أمام كل هذا، فان مهاما كبيرة تنتظر الشعب الفلسطيني في دفاعه عن قضيته وحقوقه الوطنية التي تتعرض لمجزرة سياسية حقيقية على يد التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وهذا الشعب, ورغم اختلال موازين القوى لغير صالحه، الا انه ما زال قادرا على تعطيل مسار الحل الأمريكي وافشاله وبامكانه ان يفرض مسارا مختلفا يستجيب للحد الأدنى مما يمكن ان يقبل على المستوى الوطني الفلسطيني. لكن هذا لا يمكن ان يتحقق بالتمنيات فقط، بل المطلوب فلسطينيا اجراءات وسياسات مباشرة تتجاوز ردود الفعل التقليدية التي تعتبر مقبولة من قبل الإدارة الامريكية وإسرائيل. وطالما ان جميع الفلسطينيين يتفقون على إسرائيل ليس في وارد الاستجابة للحقوق الوطنية، وفقا للمعطيات المحلية والعربية والدولية القائمة اليوم، وان الإدارة الامريكية ليست بصدد التراجع عن مشروعها المناقض للحقوق الوطنية الفلسطينية، فان هذا يفترض ان يكون عاملا مساعدا للفلسطينيين الذي لم يعد امامهم من طريق يسلكونه الا طريق الوحدة الوطنية وطريق اطلاق مقاومة بمختلف اشكالها.. ولعل السبب الأساس في تأخر اطلاق هذه المقاومة هو إمكانية تضرر مصالح اقلية رهنت مستقبلها وامتيازاتها بواقع راهن هي من تستفيد منه على حساب اغلبية فئات الشعب التي تعاني القهر السياسي والأمني والاقتصادي والنفسي..